ضربني وبكى، سبقني وشكى: حكاية الجاني الذي يتقن دور الضحية
دابا ماروك
الاستهلال:
المقولة تبدأ بفعل مزدوج يحمل تناقضًا صارخًا:
“ضربني وبكى”
- هذا الجزء يفتح الباب أمام صورة مألوفة: الجاني الذي يظهر بمظهر الضحية فور ارتكاب فعلته. الجملة في استهلالها توحي بمشهد مفاجئ وغير متوقع، حيث أن الشخص الذي يفترض أن يتحمل المسؤولية عن الخطأ يبدأ فورًا برد فعل معاكس لما ننتظره منه، وهو البكاء.
تحليل هذا الاستهلال:
- فجائية الحدث:
البداية تُظهر تناقضًا حادًا يُثير الانتباه، إذ كيف لشخص أن يعتدي ثم يبكي؟
هنا تكمن الحيلة الأولى: تشتيت الانتباه. الجاني يسعى لتحويل التركيز من أفعاله إلى مشاعره الظاهرة، في محاولة لاستدراج التعاطف. - ثنائية الفعل:
- الضرب: يمثل العدوان والإيذاء، سواء كان فعليًا (جسديًا) أو رمزيًا (إيذاء معنويًا أو نفسيًا).
- البكاء: يأتي كرد فعل معاكس، يوحي بالضعف والمظلومية، رغم أن البكاء هنا مجرد وسيلة للتلاعب بالموقف.
- رمزية البكاء:
البكاء في الثقافة الشعبية المغربية يرتبط غالبًا بالمظلومية، وبالرغبة في استثارة تعاطف الآخرين. وهنا تكمن المفارقة الساخرة: كيف يمكن لمن ألحق الأذى أن يستخدم سلاحًا عاطفيًا ليقلب الطاولة على الضحية؟
الانتقال إلى الشق الثاني:
“سبقني وشكى”
- هذا الجزء يُكمل الاستهلال بتصعيد آخر، حيث لا يكتفي الجاني بالبكاء كوسيلة دفاعية، بل يأخذ زمام المبادرة لتقديم نفسه كضحية أمام الآخرين.
- إذا كان الشق الأول يعبر عن التحايل العاطفي، فإن الشق الثاني يعبر عن استراتيجية متقنة تعتمد على التحكم بالسرد قبل أن يتمكن الطرف الآخر (الضحية الحقيقية) من إيضاح الحقيقة.
تحليل العلاقة بين الشقين:
- التصعيد التدريجي:
الجملة تبدأ بفعل بسيط (الضرب والبكاء) ثم تنتقل إلى فعل أكثر تعقيدًا (الشكوى المسبقة). هذا التصعيد يشير إلى أن الأمر ليس مجرد تلاعب عفوي، بل خطة محسوبة. - استباق الأحداث:
الجاني يدرك أن الحقيقة قد تنكشف، لذا يسارع إلى احتلال مساحة السرد (من خلال الشكوى)، مما يجعل الضحية تبدو وكأنها الطرف المعتدي في نظر الآخرين. - استغلال الزمن:
التوقيت هنا هو العنصر الحاسم. القدرة على الشكوى أولًا تمنح الجاني ميزة نفسية واجتماعية، حيث أن الرواية الأولى غالبًا ما تكون الأكثر تأثيرًا على المتلقي.
أثر الاستهلال على المقولة ككل:
الاستهلال “ضربني وبكى” لا يُعتبر مجرد مقدمة عادية، بل هو بذاته رواية مُصغرة تحمل كل عناصر الصراع: الجاني والضحية، الفعل ورد الفعل، التلاعب والتمويه، هذا الاستهلال يُمهِّد للجملة الختامية “سبقني وشكى”مما يجعلها تبدو نتيجة طبيعية للفعل الأول.
حكمة الاستهلال:
من خلال هذا التركيب البسيط في الظاهر، يعكس الاستهلال فهمًا عميقًا للطبيعة البشرية، حيث أن البعض لا يكتفي بإلحاق الأذى، بل يتقن كذلك التلاعب بالموقف لتجنب المسؤولية. إنه تصوير ساخر ودقيق لأسلوب المراوغة، الذي يبدأ بإظهار العاطفة (البكاء) ثم ينتهي بالهجوم الاستباقي (الشكوى).
خلاصة تعميق الاستهلال:
“ضربني وبكى” هي البذرة الأولى للمقولة، والمفتاح لفهم دهاء الجاني الذي يجمع بين الإيذاء الجسدي أو المعنوي، واستخدام البكاء كحيلة لخلق انطباع مغاير عن الحقيقة. هذا الاستهلال يفتح نافذة على سلوكات متلاعبين يستغلون ثقة المجتمع وتعاطفه، ويُذكّرنا بأهمية التريث وعدم الانخداع بالمظاهر.
- جذور المقولة في الحياة اليومية:
المقولة ليست وليدة الصدفة، بل هي انعكاس لواقع شائع ومواقف متكررة تشهدها العلاقات بين الأفراد. سواء كان ذلك في الأسرة، العمل، أو حتى في المجتمع الأوسع، نجد دائمًا أشخاصًا يتبنون هذا النمط السلوكي:
- الأخوة والأصدقاء: يحدث كثيرًا أن يتخاصم أخوان أو صديقان، ويقوم الجاني بتحوير القصة لصالحه أمام الآخرين.
- في العمل: الموظف الذي يرتكب خطأ في العمل، لكنه يسارع لاتهام زميله أو يلعب دور الضحية أمام المدير.
- في الجوار: النزاعات بين الجيران تبرز فيها هذه السلوكات، حيث يبادر الطرف المذنب إلى الشكوى ليُظهر نفسه بمظهر المظلوم.
- الأبعاد النفسية للسلوك:
المقولة تكشف عن خصائص شخصية وسلوكية لدى الأشخاص الذين يلجأون إلى هذا النمط:
- التمثيل وإثارة العواطف: هؤلاء الأشخاص يمتلكون مهارة تمثيلية عالية تجعلهم قادرين على كسب تعاطف المحيطين.
- الخوف من المواجهة: بدلاً من تحمل تبعات أفعالهم، يلجأون إلى هذا الأسلوب لتجنب مواجهة الحقيقة.
- الذكاء السلبي (المكر): يعرفون كيف يستغلون الزمن والسرد لصالحهم، بحيث يسبقون الآخرين في طرح قصتهم.
- البعد الاجتماعي والثقافي:
المقولة تعكس ديناميكية اجتماعية موجودة في كل المجتمعات، ولكنها في الثقافة المغربية تأخذ طابعًا أكثر خصوصية:
- الشكوى المسبقة: في السياق المغربي، تُعتبر الشكوى وسيلة فعّالة لكسب الرأي العام في بيئة تعتمد كثيرًا على العلاقات الاجتماعية.
- التلاعب بالسرد: المجتمع يميل إلى تصديق الرواية الأولى التي تُطرح، مما يمنح الجاني ميزة إذا استبق الضحية في تقديم الشكوى.
- التراحم والتعاطف: المغاربة كمجتمع معروفون بتعاطفهم، مما يجعل البعض يستغل هذا الجانب لصالحه عبر التظاهر بالتعرض للظلم.
- الأمثلة الواقعية والتطبيقات:
أ. على المستوى الشخصي:
- طفل يكسر زجاج النافذة في المنزل ثم يهرع باكيًا إلى والده ليشكو أخاه، محولاً التركيز من خطئه إلى مظلوميته الزائفة.
- شجار بين صديقين ينتهي بأن يبادر الجاني إلى الاتصال بأصدقاء آخرين لعرض روايته قبل سماع الطرف الآخر.
ب. على المستوى المهني:
- موظف يُخطئ في تسليم مشروع، لكنه يذهب إلى المدير ويشكو “تقصير فريق العمل” لتبرير إخفاقه.
ج. على المستوى المجتمعي:
- في نزاعات الأراضي أو الموارد، نجد أطرافًا تبدأ بالشكوى إلى السلطات أو المجتمع المحلي، بينما يكونون المتسببين في المشكلة.
- رسائل المقولة والحكمة منها:
المقولة تحمل رسالة مزدوجة:
- تحذير: من الانخداع بالمظاهر والتعاطف السريع مع من يبادر بالبكاء أو الشكوى دون التحقق من الحقائق.
- دعوة للإنصاف: يجب أن نبني قراراتنا ومواقفنا بناءً على الأدلة والتحقيق، وليس فقط على أساس من يتحدث أولاً أو يظهر بمظهر الضحية.
- إسقاطات معاصرة:
يمكن إسقاط المقولة على عدة أبعاد حديثة:
- في وسائل التواصل الاجتماعي:
نرى يوميًا قصصًا ينشرها أشخاص يقدمون أنفسهم كضحايا، لكن مع مرور الوقت تظهر حقائق تكشف أنهم الجناة. - في السياسة:
دول أو جماعات ترتكب أفعالًا عدائية ثم تسارع لتقديم نفسها كضحية أمام المجتمع الدولي، محققة مكاسب سياسية من وراء ذلك.
الخاتمة:
“ضربني وبكى سبقني وشكى” ليست مجرد عبارة عابرة بل حكمة متجذرة في الحياة اليومية، تكشف عن سلوكات متلاعبين يعيدون تشكيل الواقع لصالحهم عبر استغلال العواطف وسرعة المبادرة. إنها دعوة دائمة للوعي والتيقظ، وعدم الانجرار وراء السرد الأولي دون التحقق، لأن الحقيقة لا تكون دائمًا في البكاء الأول ولا في الشكوى الأسرع.