هدوءٌ يَنسابُ بين السُّطور
عاشق الليل
في تلك اللحظات التي ينسحب فيها الضجيج، يصبح الكون أشبه بموجة هادئة تتهادى على صدر الحياة. تنطفئ الأصوات التي كانت تتصارع في النهار، تاركةً فسحةً للروح لتنسج أحلامها، وللقلوب لتسمع ما أخفته خلف جدرانها. إنه زمن تتآلف فيه الروح مع سرِّ الهدوء، حيث تسافر العقول إلى فضاءات بعيدة، بحثًا عن إجابات أو ربما هروبًا من أسئلة.
هناك، في ذلك الامتداد الساكن، تنكشف اللغة على وجهها الحقيقي. الكلمات التي كانت أسرى في الحناجر تبدأ بالتسلل على أطراف الأصابع، لتروي حكايات لم يكن لها متسعٌ من الجرأة في ضوء النهار. الشعراء يجدون في تلك اللحظة صداقتهم الأعمق مع الورق، حيث يصبح الحبر مرآةً تعكس وجوههم الحقيقية.
وفي زاويةٍ بعيدة من المدينة، تسمع نبضات قلب إنسانٍ وحيد. يفتح نافذته ليشعر بنسمةٍ تحمل عطر المسافات. هناك، حيث لم تعد الأبصار تلاحق البهرجة، تتحدث الأرواح بحرية، تصغي إلى ألحان الكون الخفية.
ربما يكون هذا الزمن هديةً للعشاق، حيث ينسجون أحلامهم ببطء مثل نسج خيوط الحرير. في كل نبضةٍ دافئة من قلبٍ متيم، يسمع وعدًا غير مرئي بأن الغد قد يحمل لقاءً أو رسالةً طال انتظارها.
أما أولئك الذين يعرفون ألم الوحدة، فهو زمنهم الخاص أيضًا. لا يخشون مواجهة ذواتهم، بل يجدون في هذا الفراغ متنفسًا يحرر أرواحهم المكبلة. هنا، تسقط الأقنعة، لتبقى الحقيقة عارية أمام أعينهم.
وفي كل منزلٍ، بين الأثاث الصامت والجدران التي تحمل أسرارًا عتيقة، تستيقظ الحكايات. تتراقص ظلال على الشرفات كأنها أشباح الماضي، تروي للأحياء ما لم تجرؤ على قوله في أوقات الضجيج.
ذلك الامتداد المفعم بالسكينة لا يملّ من الإصغاء. صوت خطوات متثاقلة، زفيرٌ عميقٌ يختلط بنبض قلبٍ مُنهَك، أو حتى صرير نافذة لم تُغلق بإحكام. كل شيء يتحول إلى سيمفونية غامضة، تغنيها الحياة عندما تهدأ.
ومع اقتراب تلك اللحظات من نهايتها، تبدأ السماء بالهمس بوعدٍ جديد. وكأنها تقول: “أنا هنا، أراقب، أستمع، وأحفظ كل سرٍ لم يُفشَ.” ثم تغادر، تاركةً وراءها أثرًا خفيًا من السلام، وذكرى لن تتكرر إلا في اللحظة المقبلة.
إنها لحظات ليست ملكًا للزمن؛ إنها أبدية في شعورها، وعميقة كأسرار الأرواح.