حينما تصبح الكمامة وثيقة سفر إلى الماضي القريب
م-ص
وسط ضجيج المدينة، وازدحام الشوارع التي لا تهدأ، تمر تلك السيدة بكمامتها، وكأنها توقفت في الزمن. لا يبدو وجهها بالكامل، لكن عينيها تحملان إرثاً ثقيلاً من الأيام التي غلبت فيها الكمامات على الابتسامات، والقلوب المثقلة بالخوف على الأحاديث العفوية.
الكمامة، التي كانت بالأمس ضرورة قصوى، تحولت اليوم إلى قطعة تنتمي لذاكرة جماعية لا تزال تسكننا. ليست مجرد قماش؛ بل هي شاهد على حقبة انقلبت فيها الحياة رأساً على عقب.
نتذكر حين كان الهواء نفسه مشتبهاً به، وحين أصبح الطريق إلى الحياة يمر عبر حقنة لقاح، وبطاقة تؤكد أنك “آمن”. كمامة واحدة كانت كافية لفصلنا عن العالم، لكنها أيضاً جمعتنا في صمت موحّد أمام شاشة التلفاز أو الهاتف، نراقب عدّاد الإصابات وكأنه عدّاد العمر المتناقص.
في هذه الزاوية، تمر السيدة دون أن تلاحظ أنها تمثل تلك الحقبة التي قاومنا فيها عدواً لا نراه. تُعيدنا إلى قصص أخرى، مثل تلك السيدة التي خاضت معركة شرسة في المحكمة بعد أن خسرت معركتها الصحية مع الآثار الجانبية للقاح. نعم، نُصرت قضيتها قانونياً، لكنها تركت خلفها جسداً منهكاً وروحاً تبحث عن معنى في عالم تجاوز ألمه بسرعة غير إنسانية.
هل كانت الجائحة اختباراً للإنسانية؟ أم أنها مجرد مرآة عكست هشاشتنا؟
أثبتت الكمامة أننا لسنا فقط ضعفاء أمام الفيروسات، بل أمام الخوف والشك وحتى بعضنا البعض.
السيدة التي مرت بجانبنا، بخطى سريعة وكمامتها التي لم تتخلّ عنها، ربما كانت تحاول فقط حماية نفسها من غبار المدينة، أو ربما كانت تهرب من كل تلك الذكريات التي لا تفارقها. لكنها نجحت دون أن تدري في أن توقظ فينا تساؤلاً أكبر:
هل حقاً تعافينا من الجائحة؟ أم أننا جميعاً، بطريقة أو بأخرى، ما زلنا نحمل آثارها، ليس على أجسادنا بل في أعماق أرواحنا؟
كمامة واحدة… وثيقة سفر، لا إلى الماضي فحسب، بل إلى حقيقةٍ تقول إن الحياة، بكل عبثيتها، ستظل دوماً ترسم على وجوهنا ندوباً تُرى وتُخفى.