مجتمع

التسول في المغرب: إبداع بلا حدود أم تجارة مربحة

دابا ماروك

استهلال:

في قلب المدن المغربية وبين أزقتها وشوارعها، يبرز تسول ليس مجرد ظاهرة اجتماعية، بل صناعة متقنة لا تعترف بالحدود. فعلى الرغم من كون التسول يتسارع في الكثير من الأماكن في العالم، إلا أن الحالة المغربية تكشف عن تطور غير تقليدي لهذا النشاط. من التسول التقليدي إلى نماذج جديدة يبتكرها البعض بأدوات وخطط مدروسة، تحول التسول في المغرب إلى “فن” يحاكي خيال المبدعين أكثر من كونه طلبًا للعون. لكن مع ازدياد أعداد هؤلاء “المبدعين” وتصاعد الأساليب المتطورة التي يتبعونها، يبقى السؤال قائماً: هل فعلاً هو تسول حقيقي أم تجارة مربحة يسعى الجميع للانخراط فيها؟

التسول كمهنة مبتكرة:

في المغرب، أصبح التسول ليس مجرد حاجة ماسة تتعلق بالعوز، بل صناعة منظمة تخلق فرصًا اقتصادية عبر الابتكار والتخطيط المسبق. هذه الظاهرة تُظهر كيف يمكن للفقر أن يتحول إلى مشروع اقتصادي مدروس، حيث يتخذ المتسولون من الشوارع والساحات العامة مسارح لتمثيل قصص إنسانية تهدف إلى تحفيز العطف. وهم لا يكتفون بعرض القصة التقليدية، بل يقدمون سرديات معقدة وحبكات درامية تحاكي الأمل والألم في آن واحد، مما يجعل المتلقي يشعر وكأن المسألة شخصية.

هذا التحول جعل من التسول مشروعًا يستحق التدقيق في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية. فالتسول لم يعد “طلبًا للمساعدة”، بل أصبح استراتيجية مرنة قابلة للتنفيذ في مختلف المحطات والفضاءات العامة. وبفضل القدرة على التكيف مع بيئات مختلفة، يتطور التسول من كونه استجداءً بسيطًا إلى عملية مُتنوعة يشارك فيها “المتسول” في سوق متنوع من الأساليب المبتكرة، حيث تتداخل الاحتياجات الشخصية مع المصالح الاقتصادية.

محطات الطرق والسكك الحديدية:

تعتبر المحطات الطرقية والسكك الحديدية من بين أبرز الساحات التي يتم فيها “عرض” قصص التسول المتجددة. يوميًا، تتحول هذه المحطات إلى مسارح مفتوحة حيث يقدم المتسولون عروضًا درامية يظن الجميع أنها حقيقية. يروي كل منهم قصته التي تستهدف عطف الناس: “كنت مسافرًا وفقدت تذكرتي”، “أريد العودة إلى منزلي ولكن لا أملك المال”. تتكرر هذه القصص يوميًا بشكل يجعل من “عابر السبيل” أحد أشهر الشخصيات في الأدب المغربي الحديث، وقد يكون قد مر بنفس المحطة أكثر من مرة لكن دائمًا بنفس القصة.

ما يثير الاستغراب هو طريقة تحويل هذه القصة إلى ما يشبه “اقتصادًا دائريًا” حيث إن تذكرة السفر التي يُطلب من أحدهم دفع ثمنها، قد تُباع في وقت لاحق لأحد المسافرين القادمين في نفس المحطة أو تعود إلى الشباك ذاته الذي خرجت منه في البداية. هذه التجارة تنطوي على مبدأ دائري يتطلب مهارة عالية في اللعب على العواطف، مما يجعل المتسول في الواقع جزءًا من دورة اقتصادية مغلقة.

المخابز ومحلات الطعام: استراتيجيات مبتكرة لتسول متطور:

إذا كان البعض يعتقد أن التسول لا يخرج عن كونه طلب طعام أو مال من المارة في الشوارع، فإن هؤلاء “المبدعين” قد طوّروا استراتيجيات أذكى وأكثر تعقيدًا في أماكن أخرى. لنأخذ على سبيل المثال محلات المخابز أو أسواق الخضار والجزارة، حيث يلجأ المتسولون إلى التكتيك الأكثر ابتكارًا: “رغيف خبز، لو سمحت”، ومن ثم يُعاد بيع هذا الرغيف بعد لحظات، بل وقد يتم عرضه للبيع في نفس المحل الذي خرج منه.

هنا نجد أن المتسول قد أصبح جزءًا من حلقة مفرغة لا تنتهي، تتداول فيها الصدقات وتحويلاتها من يد إلى يد. حتى أن بعض المتسولين قد يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويشترون منتجات بسعر متواضع ثم يعرضونها للبيع مرة أخرى، دون أن يعرف البائع الذي قام بتسليمه المنتج أن المتسول قد عاد إليه ليبيع ما اشتراه.

الاقتصاد الدائري في التسول:

ما يحدث هنا هو نوع من الاقتصاد الدائري الخفي، حيث يتحول كل عطاء أو صدقة إلى جزء من عملية اقتصادية معقدة تُدر ربحًا خفيًا على المتسولين. إذ يجد المواطنون أنفسهم في موقف محير، فهم يقدمون مساعداتهم دون أن يعلموا أن ما فعلوه قد تحول إلى سلعة مُعاد بيعها في نفس المكان.

هذا المبدأ الاقتصادي الذي يبدو ككوميديا سوداء، هو في الحقيقة مرآة تعكس كيف يمكن للإنسان أن يُستغل من خلال حسن نيته. ما يبدو كصدقة بسيطة قد يتحول إلى جزء من تجارة مربحة يديرها محترفون في مجال التسول. هؤلاء المتسولون لا يعتمدون على الصدقات العشوائية فحسب، بل يطوّرون استراتيجيات تسويقية خاصة بهم، مستفيدين من كل لحظة فرصة قد تتيح لهم الحصول على دعم مالي، يعاد تدويره بشكل مربح.

الرسالة الخفية:

إن تكرار هذه الدراما الاجتماعية، واستخدام التسول كأداة استراتيجية، يوجه رسالة صامتة إلى المواطن: “لا تدع عواطفك تتحكم في جيبك”. فقد يكون ما تعتقده مساعدتك البسيطة أحد مكونات صناعة التسول التي تدر الأرباح بطريقة مبتكرة ومستمرة. وهذا التلاعب بالعواطف يعكس حقيقة مؤلمة في المجتمع، حيث قد يصبح التسول أكثر من مجرد مساعدة موجهة للآخرين، بل تجارة لا تتوقف حلقاتها عن التكرار والتطوير.

خاتمة:

في النهاية، يصبح التسول في المغرب أشبه بفن حقيقي يتقنه العديد من الأفراد. هؤلاء المبدعون قد حولوا هذه الظاهرة إلى عملية اقتصادية متقنة تتحدى منطق العطاء التقليدي. التسول هنا ليس مجرد استجداء بل مشروع تجاري يدر دخلًا، يتسم بالابتكار والخداع في آن واحد. وفي هذا السياق، قد يصبح المواطن، وهو الذي يعتقد أنه يقدم المساعدة، جزءًا من حلقة لا نهائية تساهم في صناعة مربحة قد لا يشعر بها أبدًا.

الحقيقة الصادمة التي يقدمها هذا التحليل هي أنه حتى العطف البشري يمكن أن يُستغل كأداة في مشروع اقتصادي يحركه الإبداع البشري بلا حدود. وبالتالي، تصبح مسؤولية المواطن تتعدى تقديم العون لتشمل الوعي الكامل حول كيفية توجيه هذه العطايا للمحتاجين الحقيقيين، بدلاً من أن تصبح جزءًا من صناعة تسول مزدهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى