مجتمع

عندما يلتهم الزمن الإنسانية: البشر بين مسوخ الجشع وضياع القيم

دابا ماروك

السنوات، كعادتها، تواصل انزلاقها السريع، تُلقي بثقلها على كاهل الإنسان دون أن تمنحه حتى فرصة التقاط أنفاسه أو استيعاب مرورها. فجأة، يجد المرء نفسه يقف عند أعتاب العقد الخامس من حياته، محملًا بذكرياتٍ عابرة وكأنها مجرد ومضات في شريط سينمائي سريع الإيقاع. يظن، في لحظة وهم، أن أمامه الوقت الكافي لتحقيق الأحلام المؤجلة، إلا أن الزمن، ذلك الخصم العنيد، يثبت دائمًا أنه أسرع من براق الأساطير.

تمر السنوات اللاحقة كما لو كانت مجرد عطلة قصيرة، لا تكاد تبدأ حتى تنتهي. فجأة، يقف الإنسان على عتبة الستين، ينظر إلى المرآة فيتفاجأ بخطوط الزمن وقد حفرت عميقًا على ملامحه، كأنها خرائط للحزن والفرح معًا. يبدأ في سماع الأخبار التي تجعل واقعه أكثر غرابة من الخيال: “الطفل الذي كنت تحمل في حضنك يوم ولادته؟ لقد تزوج… بل أصبح أبًا أيضًا!” عندها، يتحول الزمن إلى خنجر يغرس في قلب الذكريات، فيدرك الإنسان أن الحياة ليست فقط أسرع مما تخيل، بل إنها تسير بوتيرة لا ترحم، وكأنها تسابق الريح وتتركه خلفها متأملاً في سر هذه الرحلة.

الحياة… في تحول دائم

في تلك المرحلة، يبدأ الإنسان في رؤية العالم بمنظور مختلف. يدرك أن الحياة ليست ثابتة أبدًا؛ البشر يتغيرون، قيمهم تتبدل، وأحلامهم تنكمش لتناسب ضيق الواقع. وهنا، تبرز فكرة التحول، التحول الذي يشبه، في قسوته، تشبيهًا كاريكاتوريًا لتحول البشر إلى كائنات أخرى.

قد يبدو هذا التشبيه مبالغًا فيه، لكنه يعبر عن شعور عميق بأن الإنسان، الذي كان في يوم ما رمزًا للنقاء والطموح، يتحول تحت وطأة الحياة إلى نسخة مختلفة من نفسه. أحيانًا، إلى نسخة أكثر شراسة أو أنانية. فتلك الطفولة البريئة التي كانت تتغنى بأغاني الأمل تحولت إلى مراهقة متمردة، ثم إلى شباب مستهلك في اللهاث وراء الرزق، حتى تصل إلى شيخوخة مليئة بالندم على ما فات.

البشر… والخنزير الرمزي

عندما نقول “تحول البشر إلى خنزير”، فإننا ندخل في عمق الرمزية التي تعبر عن الانحدار الأخلاقي أو الانغماس في ملذات الحياة دون اعتبار للقيم. ربما يكون هذا التشبيه قاسيًا، لكنه يحمل في طياته رسالة واضحة: الحياة قد تأخذ الإنسان في دوامة تجعله يفقد ذاته.

الخنزير هنا ليس مجرد كائن عادي؛ إنه رمز للجشع، للركض وراء الشهوات دون اعتبار للحدود. البشر، عندما يغرقون في هذا النوع من التحولات، يصبحون عبيدًا لرغباتهم، يركضون في دائرة مفرغة من الاستهلاك، متجاهلين أن ما يملكونه ليس إلا سرابًا في النهاية.

الحياة الأسرع من البراق

إن السرعة التي تمر بها الحياة ليست مجرد حقيقة موضوعية، بل هي إحساس داخلي يزداد حدّة كلما تقدم العمر. الطفل يرى الزمن بطيئًا، يتوق إلى أن يكبر، أما الكهل فيرى السنوات تنسل من بين أصابعه كما ينسل الماء من قبضة اليد.

في هذه السرعة الجنونية، تتوالى الأحداث دون أن نملك القدرة على إيقافها أو حتى التقاط أنفاسنا. نجد أنفسنا نركض في سباق لا نهائي، نتنافس فيه ليس مع الزمن فحسب، بل مع الآخرين أيضًا، لنكتشف في النهاية أن ما كنا نسعى إليه كان مجرد وهم.

اللحظة الأخيرة… الإدراك المتأخر

عندما يصل الإنسان إلى نقطة متقدمة في الحياة، حيث تصبح معظم ذكرياته خلفه لا أمامه، يمر بمرحلة تأمل قاسية. يبدأ في مراجعة نفسه، محاولًا فهم مغزى كل تلك السنوات التي مرت. يسأل نفسه: هل كنت أنا؟ أم أنني كنت شخصًا آخر، صنعته الظروف؟

إنها لحظة مواجهة الذات، تلك الذات التي قد تكون فقدت بريقها تحت ضغوط الحياة. وهنا، فقط هنا، يبدأ الإنسان في البحث عن إعادة تعريف نفسه. البعض ينجح في استعادة إنسانيته، بينما يبقى البعض الآخر عالقًا في دوامة الماضي.

النهاية المفتوحة

الحياة ليست مجرد سباق سريع أو رحلة عبثية؛ إنها لحظة وعي نادرة تتطلب منا أن نتوقف قليلاً، أن نعيد ترتيب أولوياتنا، أن نتذكر أن الإنسان ليس مجرد كائن يركض وراء الزمن، بل هو من يصنع الزمن.

ربما تكون الحياة أسرع من البراق وعويطة، لكنها ليست أقوى من لحظة صادقة مع النفس. تلك اللحظة التي يمكنها أن تعيد الإنسان إلى ذاته، إلى براءته الأولى، بعيدًا عن كل التحولات التي قد تأخذه بعيدًا عن جوهره الحقيقي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى