دابا ماروك
إن تحليل تحولات العمل الحزبي في المغرب يكشف عن ديناميات معقدة تحكمها أطراف متعددة، حيث لم يعد التصنيف التقليدي بين اليمين واليسار قادراً على استيعاب طبيعة المشهد السياسي الحالي. لنستعرض أبعاد هذا التغيير بتعمق:
اليمين واليسار في الماضي: تنوع الأدوار وتشابك التوجهات
في عقود مضت، شكلت الساحة السياسية المغربية ساحة تنافس بين تيارات يمينية ويسارية واضحة المعالم. الأحزاب اليمينية ارتبطت بالمحافظة على النظام القائم وتبني السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، بينما كانت الأحزاب اليسارية ترفع شعارات العدالة الاجتماعية والمساواة وتنتقد الوضع القائم من منظور تغييري.
ومع ذلك، ورغم هذه الفوارق النظرية، كانت هناك خطوط مشتركة بين الطرفين في ارتباطهما بمباركة النظام السياسي، حيث بقي المخزن حاضراً كفاعل رئيسي يوجه اللعبة، إما بالتحكيم بين الأطراف أو بدمجها ضمن دائرة السلطة.
العقدين الأخيرين: تعرية الأيديولوجيا وتوزيع الأدوار
طوال العقدين الأخيرين، شهدت الحياة الحزبية بالمغرب تراجعاً ملحوظاً للأيديولوجيات الصارخة، حيث أصبحت الأحزاب السياسية خاضعة لتوجيهات مركزية أكثر وضوحاً. المخزن، الذي يمثل العمود الفقري للسلطة، أدار عملية دقيقة لتعرية بعض القيادات التي كانت تدّعي النفوذ والقوة، وذلك عبر:
- إظهار هشاشة الشعارات: المخزن كشف عجز بعض الأحزاب عن ترجمة وعودها السياسية إلى سياسات واقعية، مما أدى إلى اهتزاز ثقة الجمهور بها.
- توزيع الأدوار بذكاء: تم تقسيم المهام بين الأحزاب بحيث أصبحت بعض الأطراف تقدم نفسها كمنقذ أو “المهدي المنتظر”، متقمصة دور القائد الإصلاحي. بينما أخرى تُخاطب الفئات التي تؤمن بالشعارات الشعبوية البسيطة، مثل استخدام اللغة الدارجة في الخطاب السياسي لكسب التأييد الشعبي.
- التآكل التدريجي للأحزاب التقليدية: تراجع دور الأحزاب ذات البعد التاريخي لصالح أحزاب مستجدة ترتكز على العلاقات الشخصية أو القرب من دوائر القرار.
تدجين المعارضة وترسيخ النظام
التلاعب بمفهوم المعارضة كان استراتيجية محورية، حيث لم تعد المعارضة في المغرب تعني الرفض المطلق للنظام السياسي بقدر ما أصبحت آلية لضبط الإيقاع العام. هذا التدجين للأحزاب المعارضة تم عبر:
- إغراء القيادات بالسلطة والمناصب: حيث يتم ضم شخصيات بارزة من المعارضة إلى الحكومة لإضعاف مصداقية الخطاب المعارض.
- إطلاق مبادرات موجهة للشباب والنساء: لجذب قطاعات اجتماعية جديدة وتحويلها إلى داعم للنظام بدلاً من أن تكون مصدر قلق.
النتائج: واقع العمل الحزبي اليوم
- انعدام الفروقات الأيديولوجية: معظم الأحزاب اليوم تفتقر إلى هوية واضحة، حيث أن خطابها متشابه إلى حد كبير، ولا يقدم بديلاً حقيقياً.
- الهيمنة المركزية: المخزن استطاع أن يكون الطرف الفاعل الوحيد في رسم السياسات الكبرى، بينما اقتصرت الأحزاب على تنفيذ ما يُملى عليها.
- انفصال الأحزاب عن القواعد الشعبية: فقدان الثقة في العمل الحزبي أدى إلى عزوف المواطن عن المشاركة السياسية، حيث بات ينظر إلى الانتخابات كإجراء شكلي لا يؤثر على حياته اليومية.
الخلاصة: اللعبة السياسية بين وهم التغيير وثقل الواقع
المغرب يعيش اليوم مرحلة تحول في العمل الحزبي، حيث تحول التنوع السياسي إلى مشهد مسرحي تديره يد مركزية. الأحزاب لم تعد تعكس تطلعات الشعب بقدر ما تعكس أولويات السلطة. والنتيجة هي نظام سياسي مستقر على السطح، لكنه يعاني من تصدع داخلي ناتج عن انعدام الثقة المتبادلة بين المواطنين والأحزاب.
هل يعني ذلك نهاية العمل الحزبي في المغرب؟ ليس بالضرورة. لكن من المؤكد أن المشهد الحالي يدعو إلى إعادة النظر في دور الأحزاب، لتكون أداة حقيقية للتغيير لا مجرد واجهة للنظام القائم.