حاضر ومستقبل الأحزاب السياسية في المغرب: بين الواقع المرير والآمال المفقودة
دابا ماروك
في ظل السياق السياسي المعقد الذي يشهده المغرب، تبرز الأحزاب السياسية كعامل محوري في تشكيل المشهد السياسي، لكنها في الوقت ذاته، تواجه العديد من التحديات التي جعلت من دورها في الساحة العامة محل تساؤل. لم تعد هذه الأحزاب، التي كانت في الماضي أدوات حيوية لتحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية، سوى مظاهر فارغة تجذب إليها الأضواء في مواسم الانتخابات، ثم تختفي في غياهب التهميش بين استحقاق وآخر. في هذا المقال، سنحاول استعراض الواقع الحالي للأحزاب السياسية في المغرب، مع التركيز على التحولات التي طرأت عليها، وسنسلط الضوء على الدور الذي تلعبه في ظل الواقع السياسي الحالي، بالإضافة إلى التحديات المستقبلية التي قد تواجهها في ظل تغييرات مرتقبة على الصعيدين الداخلي والدولي.
1. تحول الأحزاب إلى “شركات عائلية“
إن أهم ما يميز بعض الأحزاب السياسية المغربية في الوقت الراهن هو تحولها إلى “شركات عائلية” أو “إمبراطوريات” سياسية يديرها أفراد أو أسر معينة. في هذه الأحزاب، يتم التلاعب بالأرقام والتزكيات، ويتم اقتسام مداخيل الصفقات السياسية وكأنها غنائم تابعة لملكيات خاصة. وتعتبر عملية بيع التزكيات للترشح في الانتخابات، والتي هي بمثابة التسلط على الفئات الشعبية الغاضبة، بمثابة السلوك المرفوض الذي يسيء لأسس العمل السياسي.
الأحزاب التي كانت في يوم من الأيام حواضن للمطالب الشعبية أصبحت اليوم أداة لتحقيق المصالح الشخصية والفئوية، حيث يتم توظيف السياسة لتحقيق أهداف محددة ومصالح آنية، لا سيما في الوقت الذي تراجعت فيه الديمقراطية الحزبية بشكل كبير. يساهم هذا الوضع في خفض مصداقية الأحزاب في نظر المواطن المغربي، خاصة في ظل غياب آليات فعالة للمحاسبة والمراقبة.
2. التلاعب بالانتخابات وتراجع الشفافية
لا شك أن الفساد الانتخابي يمثل تحديًا حقيقيًا للهيئات الحزبية في المغرب. الانتخابات أصبحت أشبه بالصفقات التجارية التي يتم فيها “بيع” التزكيات الانتخابية للمترشحين مقابل المال أو المناصب. هذا الوضع يؤدي إلى تفشي ظاهرة تزوير الانتخابات على نطاق واسع، ويؤثر سلبًا على نزاهة العملية الانتخابية برمتها.
إن عملية اقتسام المغانم السياسية بين النخب الحزبية المتنفذة جعلت من الأحزاب مجرد أدوات لتحقيق مصالح ضيقة، دون أن تساهم بشكل حقيقي في بناء الديمقراطية أو تعزيز المشاركة الشعبية. وما يزيد الأمر سوءًا هو استمرار غياب أي آلية محاسبة أو عقوبات حقيقية ضد الممارسات السياسية الفاسدة، مما يساهم في تكريس هذه الظواهر.
3. دور الأحزاب كمشاهد في ظل تراجع الحريات العامة
من جهة أخرى، تراجع دور الأحزاب السياسية في المغرب إلى مجرد “متفرج” أمام المعارك السياسية الكبرى التي تندلع بين السلطة التنفيذية والحركة المجتمعية. في السنوات الأخيرة، شهدت الساحة المغربية تراجعًا كبيرًا في الحريات العامة، حيث أصبح الحراك الشعبي أكثر تقييدًا من حيث المساحة المتاحة له.
الأحزاب السياسية، بدلاً من أن تكون جزءًا من الحراك السياسي وتلعب دورًا في تحريك المياه الراكدة، أصبحت تميل إلى توخي الحذر الشديد في اتخاذ أي موقف. تخشى هذه الأحزاب، في غياب الثقة الشعبية، من غضب “المخزن” (السلطة السياسية غير المنتخبة) التي تسيطر على مفاصل الدولة، مما يجعلها تلتزم الصمت أو تتخذ مواقف ضعيفة أمام الانتهاكات التي تحدث على أرض الواقع.
ومع تراجع الحريات، تغيب المشاركة الفعالة للأحزاب السياسية في القضايا التي تهم المواطنين بشكل مباشر، مثل الحق في التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية. ذلك أن هذه الأحزاب، التي كانت من المفترض أن تساهم في التعبير عن القضايا المجتمعية وتجد لها حلولًا، تحولت إلى أداة للتنازل عن حقوق المواطنين مقابل مكاسب سياسية ضيقة.
4. الهاجس الأمني: الخوف من “غضب المخزن“
في ظل الوضع الحالي، يجد العديد من القادة الحزبيين أنفسهم في مأزق حقيقي، فخوفهم من “غضب المخزن” – وهو تعبير يشير إلى السلطة العليا في البلاد والتي تمتد تأثيراتها إلى العديد من المؤسسات والمراكز السياسية – يقيد قدرتهم على اتخاذ مواقف مستقلة أو معارضة صريحة. ففي غياب استراتيجيات حزبية حقيقية تكون موجهة نحو الإصلاح والتغيير، تظل الأحزاب في حالة من التبعية المستمرة، تبحث عن موافقة الجهات الحاكمة بدلًا من التصدي للفساد أو المطالبة بالإصلاحات التي من شأنها تحسين حياة المواطنين.
5. التحديات المستقبلية للأحزاب السياسية في المغرب
بينما تتطلع الأحزاب السياسية إلى المستقبل، تظل أمامها تحديات عدة قد تعكس واقعًا مغايرًا في السنوات القادمة.
أولاً، لابد لهذه الأحزاب من إعادة بناء نفسها بشكل يعيد إليها مصداقيتها لدى الشعب المغربي. ويشمل هذا السعي إلى خلق آليات ديمقراطية حقيقية داخل الحزب، من خلال ضمان الشفافية في اتخاذ القرارات وتوفير الفرص للأجيال الجديدة للمشاركة في القيادة.
ثانيًا، يمكن للأحزاب السياسية أن تلعب دورًا في تعزيز الحريات العامة وتعزيز سيادة القانون، وهو ما سيسهم في إحياء العملية الديمقراطية. ولكن ذلك يتطلب، في البداية، تغييرًا جذريًا في طبيعة الأحزاب وتوجهاتها بعيدًا عن المصالح الضيقة للأفراد.
أخيرًا، من الضروري أن تسعى الأحزاب السياسية إلى تقديم بدائل اقتصادية واجتماعية حقيقية للشعب المغربي، تتماشى مع تطلعات الشباب، الذين يمثلون جزءًا كبيرًا من المجتمع المغربي. يمكن للأحزاب أن تلعب دورًا في تفعيل الإصلاحات الاجتماعية، من خلال رفع وتيرة المشاركة السياسية للشباب، وتعزيز محاربة الفقر والبطالة.
6. أفق الأحزاب السياسية في المغرب: التحديات والآمال في ظل التحولات الجارية
إن الأحزاب السياسية في المغرب تواجه تحديات جسيمة، حيث تحولت إلى كيانات متحكمة من قبل مجموعة صغيرة من الأفراد، تعيد إنتاج نفس الممارسات الفاسدة التي لا تعكس تطلعات الشعب المغربي. ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا في إعادة بناء هذه الأحزاب بشكل ديمقراطي وحقيقي، ليكون لها دور فاعل في إعادة إحياء الحريات العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية. إن مستقبل الأحزاب السياسية في المغرب سيظل رهينًا بقدرتها على التغلب على هذه التحديات وتجديد علاقتها مع المواطن، الذي لا يزال يأمل في رؤية حزب سياسي حقيقي يعمل من أجل مصلحة الوطن والمجتمع.
7. محاربة العزوف عن الانخراط في العمل السياسي والمشاركة الانتخابية
يعد العزوف عن العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات من أبرز التحديات التي تواجه الأحزاب السياسية في المغرب في الوقت الحالي. في ظل ما يشهده المشهد السياسي من تراجع كبير في مصداقية الأحزاب وانغماس بعضها في ممارسات لا أخلاقية، بات الكثير من المواطنين خاصة فئة الشباب يبتعدون عن الانخراط في الحياة السياسية أو المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. السبب الرئيسي لهذا العزوف يكمن في فقدان الثقة في الأحزاب التي أصبحت مرتبطة بالمصالح الشخصية والعائلية، ما جعلها تبدو كمؤسسات منفصلة عن واقع الشعب وهمومه.
لمكافحة هذا العزوف، ينبغي على الأحزاب أن تتبنى سياسات جديدة تعيد الروح للعمل السياسي وتجذب الشباب والمواطنين بشكل عام.
أولًا، من الضروري أن تقوم الأحزاب بتغيير آليات اختيار مرشحيها، بحيث لا تقتصر التزكيات على الأشخاص المرتبطين بالأسر السياسية التقليدية أو الزبائن من أصحاب المال والنفوذ، بل يجب أن تشمل فئات شابة وجديدة قادرة على تقديم أفكار ومبادرات تلبي حاجات المجتمع.
ثانيًا، يجب أن يكون هناك اهتمام أكبر بتطوير البرامج السياسية التي تلامس القضايا اليومية للمواطنين، مثل تحسين ظروف التعليم والصحة، ومحاربة الفقر والبطالة، وتوفير بيئة شفافة ونزيهة للعمل السياسي.
أخيرًا، ينبغي للأحزاب أن تلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز الوعي السياسي بين المواطنين، من خلال حملات توعوية ومبادرات تشجع على المشاركة في الانتخابات وتوضح أهمية الصوت الانتخابي في صناعة التغيير. إذا استطاعت الأحزاب أن تكون أكثر مصداقية وواقعية في تعاطيها مع هموم الناس، فإن العزوف عن المشاركة السياسية قد ينحسر، ويعود المواطنون إلى الانخراط في العملية الديمقراطية بروح من الأمل والتفاؤل في إمكانية التغيير.
ختام
إن الوقت قد حان لثورة سياسية حقيقية في المغرب، ثورة لا تقتصر على الشوارع، بل تبدأ من داخل الأحزاب نفسها. فالشعب الذي اكتوى بنيران الفساد والهدر لا يمكنه الانتظار أكثر من ذلك. لا مكان للممارسات القديمة التي تهدم أحلام الشباب وتغرق الأمل في قاع المحسوبية والزبونية. المستقبل يتطلب شبابًا يعيدون بناء المؤسسات السياسية على أسس جديدة من الشفافية والعدالة، ويتبنون قضايا الشعب بدلًا من مصالحهم الشخصية. فإما أن تنجح الأحزاب في استعادة ثقة المواطنين بجدية، وإما أن تصبح جزءًا من الماضي الذي لن يذكره التاريخ إلا باعتباره عائقًا أمام تقدم الوطن. المغرب يستحق أكثر من هذا، والمواطنون على استعداد ليكونوا جزءًا من هذا التغيير الجذري الذي لا محيد عنه.