بطولات اللسان الفارغ: حروب لا تنتهي وبطاريات لا تنفد!
دابا ماروك
في كل زقاق وركن بالمجتمع المغربي، تجد “الأبطال الشفويين” الذين يعيشون على استعراض العضلات الشفوية. هؤلاء صنف خاص من البشر، لا يحتاجون لأدوات حقيقية، ولا لمواهب فذة، بل يكفيهم فقط ميكروفون داخلي وبطارية لسان لا تنفد أبدًا. هم في الحقيقة كائنات شفاهية أكثر منها فعلية؛ يمسكون بمقاعدهم في المقاهي بكل ثقة، كأنهم في عرش العوالم السرية، يسردون مغامراتهم الملحمية التي لم تحدث أبدًا، حيث هم الأبطال المغوارون الذين لا يُقهَرون، لكن فقط في حكاياتهم الخاصة.
إنهم لا يفوّتون فرصة لإبراز مهاراتهم الخارقة في الكلام، وهم جالسون على مقاعدهم المفضلة في المقاهي، متشبثون بسبحهم كأنها شعارات النصر. فهؤلاء الشخصيات يعيشون في بُعد موازٍ، حيث هم أبطال في كل الحكايات، وفي أذهانهم يسافرون عبر الزمن ليخوضوا معارك لم تجرِ أبدًا، ويرتدون عباءات البطولة كما يرتدي البشر قميصهم في الصباح.
“فحول الكلام” يعيشون على خيرات الحكي واستعراض العضلات اللسانية. هؤلاء صنف من الناس لا يحتاجون إلى مؤهلات، إذ يكفيهم بئر لا ينضب من الكلمات، وميكروفون داخلي مزود ببطارية من طراز رفيعة. يجلسون في المقاهي والبيوت، يسدّون الأذنين بكلامهم المنمق عن مغامرات وهمية، أبطالها الأسطوريون هم أنفسهم، طبعًا، في قصص لا تُعرض إلا في أدمغتهم
هؤلاء الأبطال يبدون أقوى من “رامبو” وأكثر جرأة من “طرزان”، ومع ذلك، بمجرد أن تحتاج منهم مساعدة فعلية، ينقلبون إلى مشاهدين عاديين في فيلم صامت. يقسمون أيمانًا على ما فعلوه وما رأوه، ويستطيعون ببراعة نادرة أن يحولوا حادثة بسيطة – مثل فنجان شاي انسكب في المقهى – إلى معركة ملحمية، حاربوا فيها وحدهم ضد قوى خفية، وبالطبع، هم دائمًا المنتصرون.
قصصهم أشبه بأفلام الأكشن المختلطة بالفكاهة، تبدأ من “معركة” يخوضها أحدهم مع سائق طاكسي لم يتوقف له، ويصل بها إلى صراع محتدم في سوق شعبي بسبب “حزمة بقدونس” باهتة، وقد تجرأ بائع الخضار على تقديمها لهم! يمزجون في حكاياتهم مواقف لا يصدقها العقل، كأنهم يخوضون حربًا طاحنة ضد قوى خفية تتآمر ضدهم وحدهم في هذا الكون. وطبعًا، في هذه المعارك – التي لا يشهدها سوى الخيال – هم المنتصرون دائمًا، يخرجون من كل أزمة برأس مرفوع، كأنهم أبطال قصص شعبية يسطرون دروسًا في الشهامة، لا لأجل شيء سوى تسلية جلّاس المقاهي أو تمرير الوقت.
والمثير للسخرية حقًا، أن لديهم طريقة مذهلة في قياس “قيمة” الشخص وفقًا لحجم الكلام المنمق الذي يرويه، وليس بما أنجزه فعلًا في حياته. فإذا أراد أحدهم أن يثبت جديته في موقف ما، أخرج سيجارةً وهمية، ونفخ صدره، ثم قال: “واش ما قلتش ليكم؟” وكأنه يُظهر للجميع أنه توقّع كل مصائب العالم بحكمة خيالية.
يظنون أن كلامهم يشكل بصمة دائمة تخلدهم كأبطال، ولكن في الواقع، يشبهون عاصفة من الهواء الساخن، تنتهي وتخلف وراءها هدوءًا من فراغ، لا يذكرهم بعده أحد. ولكنهم مع ذلك يعودون في اليوم التالي، بأرواح جديدة، وبقصص أعيد تدويرها عشرات المرات، حاملين بطاريات لا تنفد أبدًا، وتاركين خلفهم مجددًا تلك الزوبعة الكلامية، كأنهم يقولون لنا في صمت: “نحن هنا، نعيش ونحيا، طالما أن لساننا لا يصمت.