سياسةمجتمع

من لا يسرق، لا يجد ما يسرق: جدلية الفساد في مجتمعاتنا

م-ص

في العالم العربي، واقع مليء بالتناقضات والمفارقات العجيبة، حيث أصبحت مقولة “المال السايب يعلم السرقة” أكثر من مجرد حكمة؛ بل هي واقع يومي يسيطر على علاقات الأفراد بالدولة. فالمال العام في العديد من الدول العربية يُعامل وكأنه غنيمة تُتنازع بين الأطراف وتُستنزف دون أدنى رقابة أو محاسبة. هذا الوضع لم يكن ليتفاقم لولا وجود تواطؤ ثقافي واجتماعي، حيث تُبرر سرقة المال العام بحجج واهية مثل “الجميع يفعل ذلك”.

البداية البسيطة للفساد

غالبًا ما يبدأ الفساد في المجتمعات العربية من خطوات صغيرة: قبول هدية، رشوة خفيفة، أو استثناء بسيط. ومع مرور الوقت، تصبح هذه الممارسات عادة يومية، وتتفاقم حتى تغرق المنظومة في دوامة من الفساد الممنهج. الهدية التي تُعتبر في البداية رمزًا للمجاملة تتحول إلى واجب، ثم إلى مطلب. وبذلك يصبح الفساد كالإدمان؛ كلما زاد الفرد من استغلاله للمنصب، زادت حاجته لتكرار هذه السلوكيات.

المفارقة في الدول الثرية الكبرى

رغم الثروات الهائلة التي تمتلكها الدول العربية، إلا أنها تُعاني من فقر مدقع في العدالة الاجتماعية وسوء توزيع الثروات. يكفي أن تلقي نظرة على حفلات الزفاف الفاخرة في القصور والفنادق الفخمة، التي تُنفق فيها مبالغ خيالية تعكس فجوة طبقية صارخة. وفي الوقت الذي ينعم فيه البعض بحياة مترفة، يُعاني آخرون من شح المياه وغياب الخدمات الأساسية، بل وحتى من انعدام الأمن الغذائي.

وفي مقابل هذا البذخ المفرط، توجد شريحة واسعة من السكان تعيش في ظروف معيشية صعبة، تكافح يوميًا لتأمين قوتها. في دول نفطية غنية مثل العراق وليبيا، يتجلى المشهد بوضوح، حيث تُختزل ثروات البلاد في أيدي قلة حاكمة تُبدد الموارد على مشاريع وهمية أو تُهَرب الأموال إلى البنوك الأجنبية، بينما يظل الشعب رازحًا تحت وطأة الأزمات المتفاقمة.

الجزائر والمغرب: قصص جوهرية

في الجزائر، يتحكم العسكر الحاكم بمفاصل الدولة، حيث تحوَّل الجيش من حارس للحدود إلى مستثمر في مختلف المجالات. الأجيال القادمة من أبناء وأحفاد الضباط الكبار تم تأمين مستقبلهم بأموال أُودعت في بنوك سويسرا وفرنسا، بينما يُحرم المواطن الجزائري البسيط من حقه في حياة كريمة. الأموال التي كان يجب أن تُستثمر في التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية أُهدرت على بناء قصور فخمة وشراء عقارات في باريس.

أما في المغرب، فالقصة تأخذ طابعًا مختلفًا ولكنها لا تقل مأساوية. هنا، يسعى العديد من المسؤولين إلى استغلال مناصبهم للحصول على جنسيات أجنبية، خاصة فرنسية، لضمان مستقبلهم الشخصي. ورغم ذلك، تبقى العديد من الملفات الجوهرية مرتبطة بسوء إدارة المال العام. على سبيل المثال، كانت فضائح الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بمثابة جرس إنذار حول كيفية تبديد أموال الشعب، مما أضاف إلى سجل الفساد المحلي الذي لا يزال ينتظر المحاسبة.

من الأموال المنهوبة إلى طوابير المحاكمة

أصبحت المحاكمات القضائية جزءًا من المشهد اليومي، ولكن هل يكفي ذلك؟ في سجن عكاشة، يقبع اليوم نواب وأعضاء في البرلمان كانوا في السابق يمثلون الشعب، ويواجهون تهمًا تتعلق بسرقة الأموال العامة. ومع ذلك، لا يزال الشعب يطالب بالمزيد، ويتوقع محاسبة أولئك الذين يشغلون المناصب العليا ولهم تأثيرات أكبر. إنهم يطالبون بمحاسبة رؤساء الجماعات الترابية والمستفيدين من النفوذ السياسي، الذين استغلوا مناصبهم للحصول على امتيازات شخصية، فيما لا تزال بعض الملفات الهامة مغلقة، وتكدس العشرات من القضايا بلا حل.

المستقبل المهدور

في العالم العربي، ليست الجريمة مجرد حادثة فردية؛ بل هي ظاهرة ثقافية عميقة الجذور، تغذيها البيروقراطية المترهلة، نقص الرقابة، وغياب النظام الفعال. المشكلة الأكبر تكمن في انعكاس هذه الظواهر على الأجيال القادمة. فالشباب، الذي يمثل النسبة الأكبر من السكان، يجد نفسه أمام واقع مرير، حيث الفرص محدودة والمستقبل غير مضمون. يعاني العديد منهم من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعلهم في حالة من الإحباط وعدم اليقين.

الخاتمة

يبقى السؤال الأهم الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل تستطيع الدول العربية التخلص من هذا الوباء المتفشي في جسد مجتمعاتها؟ أم أن الفساد سيظل مكونًا أساسيًا من بنيتها الثقافية والسياسية، حتى يصبح جزءًا لا يتجزأ من هويتها؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بالسهلة، إذ تتطلب إرادة سياسية قوية وشجاعة مجتمعية لمواجهة هذه الآفة من جذورها. الفساد ليس مجرد سلوك فردي، بل هو نتيجة تراكمية لعوامل ثقافية واجتماعية وسياسية معقدة. الإصلاح ليس مستحيلًا، لكنه بحاجة إلى جهد جماعي يبدأ من تغيير جذري في القيم والمفاهيم السائدة، ويشمل إعادة هيكلة المؤسسات على أسس أكثر نزاهة وشفافية.

إن محاربة الفساد ليست مسألة معركة قانونية فحسب، بل هي معركة ثقافية تتطلب إعادة تعريف مفهوم الثروة والسلطة. فطالما ظل مفهوم “الربح بأي ثمن” سائداً، سيكون الفساد مستمرًا. ولعل الحقيقة التي يجب أن نتذكرها دائمًا هي أنه لا يسرق من لا يجد ما يسرق، ولا ينهب من لا يُتاح له النهب. فالفقر، التهميش، وانعدام الفرص، كلها عوامل تجعل الفساد يبدو كخيار أسهل وأقل كلفة للكثيرين. لذلك، إذا أرادت الدول العربية بناء مستقبل أفضل، يجب أن يتم التركيز على معالجة جذور الفقر، وتوفير الفرص الحقيقية للشباب، وخلق بيئة تعليمية وصحية تسهم في بناء أفراد قادرين على تحمل مسؤولياتهم الاجتماعية والسياسية.

في النهاية، الإصلاح يتطلب التزامًا طويل الأمد، ووعياً جماعياً بأن الفساد هو عدو المستقبل. وإذا لم تتخذ المجتمعات العربية خطوات جادة للحد من هذه الآفة، فإن الأجيال القادمة ستظل تعاني من نفس الدوامة المدمرة التي حولت الفساد إلى نظام قائم. لذا، يبقى الطريق إلى التغيير مفتوحًا فقط لمن يملك الإرادة والقدرة على المضي قدمًا نحو غدٍ أفضل.


 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى