تقريب الإدارة من المواطنين: شعار جميل لكنه دون جدوى دون تحسين الخدمات
دابا ماروك
في المغرب، كثيرا ما يُسمع الحديث عن ضرورة “تقريب الإدارة من المواطنين” في إطار الإصلاحات التي تُعدّ لتحسين حياة المواطن. لكن، رغم أن هذا الشعار أصبح حديث الساعة، فإن الواقع يعكس صورة مغايرة تمامًا. فالمواطن المغربي، الذي يعاني من صعوبات متعددة، يكتشف أن الهدف لا يقتصر فقط على نقل الإدارات إلى أماكن أقرب، بل يتطلب تغييرًا جذريًا في كيفية تقديم الخدمات وجودتها.
الصرخة الأولى: الإدارة تقف شامخة أمام المواطن ولكن…
حينما ترى بناية الإدارة تقف شامخة أمامك، قد يساورك شعور بالارتياح. الشعار قد يوحي بأن الأمر قد أصبح أكثر سهولة، وبأن القوانين الجديدة تهدف إلى تسهيل الأمور وتوفير الوقت والجهد على المواطن. لكن الحقيقة التي يواجهها المواطن المغربي عند دخول أي مرفق إداري هي بعيدة تمامًا عن هذه التصورات المثالية.
البناية التي تقف أمامك تمثل صورة من صور تحديث الدولة، لكن ما أن تدخلها حتى تبدأ المتاعب. تزدحم الممرات، وتغرق الغرف في الفوضى. في هذا السياق، لا يتعلق الأمر بالمبنى أو موقعه، بل بالخدمات التي من المفترض أن تقدمها هذه الإدارة للمواطن. فالمواطن، الذي يعتقد أن الوصول إلى الإدارة سيكون أسهل، يجد نفسه وسط متاهة من الإجراءات المعقدة، والانتظار الطويل، وعدم وضوح الأدوار والمسؤوليات.
المشكل الأساسي: الخدمات أم المبنى؟
حينما يُقال “تقريب الإدارة من المواطنين”، يظن البعض أن هذه العبارة تعني ببساطة نقل المباني الإدارية إلى مواقع قريبة من الأحياء السكنية أو مراكز المدن. لكن الحقيقة هي أن القرب الجغرافي ليس كافيًا إذا لم يتم تزامنه مع تحسين جوهري في الخدمات المقدمة. فالمواطن لا يبحث عن مبنى إداري جميل فقط، بل يبحث عن خدمات سريعة وفعالة.
المشكلة ليست في المبنى فحسب، بل في النظام الذي يحكم سير العمل داخل هذه الإدارات. فقد تكون الإدارة قريبة من المواطن جغرافيًا، لكن العمليات البيروقراطية، وصعوبة الوصول إلى المعلومات، والتأخير في إنجاز الإجراءات تجعلها أبعد من أي وقت مضى. فالمواطن يدخل من باب الإدارة وهو يتوقع إتمام معاملاته في وقت سريع، ليجد نفسه محاطًا بمجموعة من الخطوات المعقدة، وأحيانا المماطلة والتأجيل.
التقليدية المرهقة: البيروقراطية كمشكلة مزمنة
لنعد قليلًا إلى البيروقراطية، التي تُعدّ أكبر العوائق التي تواجه المواطن المغربي عند محاولة التعامل مع الإدارات. إن مجرد التفكير في الانتقال من طابق إلى طابق داخل نفس البناية، أو المرور عبر مكاتب متعددة للحصول على توقيع واحد، هو بمثابة رحلة في عالم مليء بالعقبات. وحتى لو كانت هذه الإدارات قد انتقلت إلى أماكن أقرب، فلا يزال المواطن يقبع في مكانه، محاصرًا بين الإجراءات البيروقراطية التي لا تنتهي.
التقارير الرسمية تشير إلى أن معظم المواطنين يواجهون مشاكل متعلقة بالأعمال الإدارية البسيطة، مثل الحصول على وثيقة إدارية أو القيام بإجراء قانوني بسيط. ورغم الجهود المبذولة لإصلاح هذه الممارسات، إلا أن الوضع لا يزال دون المستوى المطلوب، والسبب الرئيسي هو استمرار النظام البيروقراطي الذي لا يزال يعطل تقدم الإدارة ويجعل المواطن يواجه صعوبات كبيرة في الحصول على خدماته.
المواطن والمصير المشترك: غياب التواصل بين الإدارة والمواطن
إحدى المعضلات الكبرى التي يعاني منها المواطن المغربي عند التعامل مع الإدارة هي غياب التواصل الفعّال بين الطرفين. فالعديد من الإدارات تعمل في صمت تام، مع إغلاق الأبواب أمام أي فرصة لتلقي الملاحظات أو الاقتراحات من المواطنين. وبالتالي، يظل المواطن بعيدًا عن معركة الإصلاح، لأن إدارته لا تأخذ بعين الاعتبار رأيه أو احتياجاته الحقيقية.
حتى عندما يُسمح للمواطن بالتعبير عن رأيه، نادرًا ما يتم اتخاذ خطوات جادة لتنفيذ هذه الاقتراحات أو معالجتها. بل، إن كثيرًا من المرات يتم قمع أي محاولة للتعبير عن الاستياء أو تقديم حلول عملية بشكل غير مباشر، ما يؤدي إلى تعزيز قناعة المواطن بأن أي محاولة للإصلاح غير مجدية. وهذا ليس لأن الدولة لا تسعى للتحسين، بل لأن هناك مقاومة هائلة في بعض الإدارات، حيث لا تزال عقلية “التراتبية البيروقراطية” هي السائدة.
التحسين الفعلي: من المبادئ إلى التطبيق
على الرغم من أن الحكومة قد أطلقت العديد من المبادرات التي تهدف إلى تحسين الخدمات الإدارية، مثل الرقمنة وتحديث نظم المعلومات، إلا أن هذه المبادرات غالبًا ما تظل محصورة في الأوراق الرسمية وفي الخطابات العامة. وإذا كان الانتقال إلى الرقمنة هو أحد الحلول التي تم الترويج لها بشكل واسع، فإن التطبيق الفعلي لهذه الأنظمة في بعض الإدارات يظل محدودًا، بل وأحيانًا يتسبب في عرقلة أكثر مما يقدم حلولًا.
إذا كانت الرقمنة قد أوجدت فرصًا كبيرة لتحسين الخدمات في بعض البلدان، فإن تطبيق هذه التقنية في المغرب لا يزال يعاني من مشاكل جمة، مثل ضعف البنية التحتية، وتفاوت المهارات التقنية لدى الموظفين، وعدم قدرة الأنظمة الرقمية على تلبية احتياجات المواطنين الفعلية.
الانتظار القاتل: كيف يعكس المواطن استعداده لانتظار دوره
أحد أكثر التحديات التي يواجهها المواطن المغربي هو “الانتظار القاتل”. إذا كنت بحاجة لإنجاز إجراء إداري بسيط مثل تجديد بطاقة التعريف الوطنية أو استخراج وثيقة إدارية، فإنك على الأغلب ستقضي ساعات طويلة في انتظار دورك، وفي أحسن الأحوال ستنتهي تلك الجلسة بموعد آخر بعيد لأجل إتمام الأمر. هذا الانتظار الطويل يمكن أن يكون محبطًا للغاية، خاصة في مجتمع يعاني من ضغوطات الحياة اليومية مثل البطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة، وقلة الفرص.
إدارة جيدة، سواء كانت قريبة من المواطن أو لا، يجب أن تلتزم بتحقيق الخدمة في أسرع وقت ممكن، مع تقليص أوقات الانتظار والتقليل من الإجراءات المعقدة التي تؤدي إلى تضييع وقت المواطن.
الخلاصة: بعيدًا عن القرب الجغرافي، نحتاج إلى “قرب خدماتي” حقيقي
إذا كان الهدف هو تسهيل حياة المواطن، فإن الحل يكمن في تحسين جودة الخدمة بشكل حقيقي، وليس فقط القرب الجغرافي للمرافق الإدارية. يجب أن تكون هناك رؤية شاملة تقوم على تحسين آليات العمل داخل هذه المؤسسات، وتقليص البيروقراطية، وضمان خدمات فعالة سريعة ومباشرة. الإدارة الجيدة لا تقتصر فقط على المباني أو المسافة بين المواطن والمرفق الإداري، بل تتعلق بشكل أساسي بكيفية تلقي الخدمات، ومدى تيسير الإجراءات، وخلق بيئة من الشفافية والوضوح والسرعة.
وإذا كان “التقريب” هو الهدف، يجب أن يبدأ من الخدمة قبل المسافة.