التقاعد والحج… حين تصبح العبادة استثمارًا عالميًا
م-ص
في زاوية أحد المقاهي، جلسنا مع ذلك الرجل الذي يمزج الجدية بالسخرية بطريقة تجعل الحاضر يضحك، ولكنه يخرج من النقاش بتجاعيد جديدة على جبينه. رجل تقاعد منذ 15 عامًا، يعيش بين أحلام أداء مناسك الحج وكوابيس مصاريفه، التي يرى أنها قد تجد طريقها إلى جيوب الأمريكيين مباشرة، أو كما وصفها هو: “حج بمباركة ترامب!”
ترامب ودولار الحاج
بدأ الرجل حديثه بملامح جادة جدًا، حتى شعرنا أن الموضوع قد يأخذ منحى فلسفيًا أو دينيًا عميقًا. لكنه فجأة قال:
“ترامب قبل أن يجلس على عرش البيت الأبيض،قال حرفيا أن الله رب الجميع، وأن جيب الحجاج مفتوح للاستثمار. كانت أمريكا حينها تفكر في فرض ضريبة على كل نَفَسٍ يأخذه الحاج، لأنهم يستهلكون الأكسجين على أراضي الله دون إذن من ‘العم سام’!”
ضحكنا في البداية، لكنه كان يضيف جملًا تُشعرك أنه قد قرأ كتابًا سريًا عن كيفية الاستفادة من كل حركة في الكون. قال:
“تخيّل، يدفع المغاربة ملايين الدراهم (وهي ليست دراهم معدودة كما تظنون!) لأداء مناسك الحج، ومن هناك تبدأ الرحلة الكبرى. الطيران؟. الفنادق؟ بعضها تحت إدارة شركات كبرى تملك أسهُمها بورصات نيويورك. الطعام؟ حتى التمر الذي تأكله قد يكون مُصدّرًا من كاليفورنيا. بمعنى، لو دخلت مصاريف الحاج المغربي إلى مجهر مالي، ستجد أن جزءًا منها يدخل ضمن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة!”
الحج و”المصاريف المدفوعة مسبقًا“
ثم توقف قليلًا وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يكمل:
“أتعلم؟ أنا لا أخاف من المصاريف بحد ذاتها، فقد عشت نصف عمري أدفع وأدفع دون أن أعرف أين تذهب أموالي. لكن ما يخيفني هو أن تتحول العبادة إلى مشروع استثماري. تخيّل معي لو قررت أمريكا تقديم خدمات الحج الممتازة. ‘باقة ترامب البلاتينية’ مثلاً: مكان قريب من الكعبة، شاي مثلج في عرفة، وصورة تذكارية مع حرس ملكي، وكل هذا مقابل أضعاف ما تدفعه حاليًا. قد يصل الأمر إلى مزادات على أفضل مواقع الطواف! “
ثم أضاف وهو يشير بيده إلى كوب الشاي أمامه:
“تخيّل لو قررت شركات السوشال ميديا دخول هذا السوق. تصلك إشعارات: ‘احجز الآن مكانك في رمي الجمرات… العرض محدود!’ أو: ‘حج ذكي مع تطبيقنا المميز! تتبع خطواتك في الطواف، واحصل على نقاط مكافآت!’، وكأن الحج أصبح تجربة VIP بدل أن يكون عبادة روحية.”
الشهادة والإعلانات
لم يكتفِ الرجل بهذا الحد من “التنبؤات”. بل قال وهو يرفع حاجبيه ليزيد من حدة سخريته:
“ربما حتى شهادتك بأنك قد أتممت الحج ستصل عبر إعلان على يوتيوب. ‘مبروك! لقد أكملت الحج، هل تريد شراء شهادة ذهبية؟ فقط بـ99.99 دولارًا!'”
في هذه اللحظة، كنا نمسك بطوننا من الضحك، لكنه فجأة انتقل إلى نبرة أكثر جدية وقال:
“لكني لا أمزح. نحن نعيش في عالم حيث كل شيء يُباع ويُشترى، حتى أحلام الناس وأرواحهم. الحج كان دومًا رمزًا للروحانية والبساطة، لكنه الآن يتحول تدريجيًا إلى سوق كبير. وحتى لو لم يكن ترامب شخصيًا وراء الأمر، فهناك دومًا من يبحث عن الربح في كل شيء.”
عودة إلى الوطن… وإلى الواقع
ثم أنهى الرجل حديثه بنبرة حزينة قليلاً:
“15 سنة منذ تقاعدي، وأنا أحلم بالحج. لكن ليس بسبب المصاريف فقط أؤجل الأمر، بل بسبب الخوف من أن تتحول تلك الرحلة إلى تجربة أشعر فيها أنني زبون، لا عبدٌ لله. أريد أن أطوف حول الكعبة بقدميّ، لا أن أكون مجرد رقم في قوائم شركات الطيران والفنادق والباقات السياحية.”
بعد هذا الحديث، ساد صمت طويل على الطاولة. لم نعد نعرف هل نضحك أم نحزن. لكننا أدركنا جميعًا أن هذا الوطن، الذي تتشابك فيه الأحلام بالمآسي، هو مكان يولد فيه الظرفاء من رحم المعاناة، ليحولوا همومنا إلى قصص نضحك منها… ثم نبكي عليها.
ختامًا: دعاء ومبادرة
في ختام هذا الحديث، نتمنى لكل الحجاج المسلمين أينما كانوا حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، ورحلة روحية تُعيد الطمأنينة إلى قلوبهم. كما ندعو إلى إطلاق مبادرات مجتمعية لدعم الراغبين في أداء هذه الفريضة، خاصة من المتقاعدين ومحدودي الدخل، حتى تبقى هذه العبادة في متناول الجميع، بعيدًا عن قيود الاستثمار والاستغلال التجاري.