“من قال لك قال عنك”: رحلة في تأثير الآراء على الذات
دابا ماروك
تُعدّ هذه المقولة الشعبية انعكاساً دقيقاً لمدى تأثير كلام الآخرين عنّا. “من قال لك قال عنك” تعني، في بساطتها الظاهرة، أن كل ما يُقال لنا يحمل في طياته شيئاً من رأي الآخرين عنا. سواءً كان ذلك مدحاً أو نقداً، كل ما يُقال يعكس جزءاً من صورة الآخرين حولنا. لكن السؤال الأهم هنا: كيف تؤثر آراء الآخرين علينا؟ وهل يمكن لهذه الآراء أن تشكل هويتنا؟
أولاً: كيف تتشكل آراء الآخرين؟
الآراء حول الأشخاص تتأثر بالعديد من العوامل؛ منها التجربة الشخصية، والتنشئة الاجتماعية، والثقافة المحيطة، وأحياناً حتى بالأحكام المسبقة التي لا تستند على معرفة دقيقة. عند التعبير عن رأيهم، قد يستخدم الآخرون خبراتهم الشخصية كعدسة لتحليل تصرفاتنا ومواقفنا، مما يؤدي إلى تفسيرنا بطرق قد لا تكون بالضرورة صحيحة أو دقيقة. وعليه، فإن ما يُقال لنا غالباً ما يكون مزيجاً من الحقيقة، والتحليل، وأحياناً، القليل من إسقاطات الشخص الآخر.
ثانياً: أثر كلمات الآخرين على رؤيتنا لأنفسنا
قد يبدو أحياناً أن آراء الآخرين عنا لا تؤثر على شخصيتنا، لكن الواقع قد يكون مختلفاً، خاصةً إذا كانت هذه الآراء تحمل تكراراً أو تأتي من مصادر نثق بها. آراء المحيطين بنا، سواء كانت سلبية أو إيجابية، يمكن أن تزرع بذور الشك أو الثقة داخلنا. على سبيل المثال، إذا سمعنا تكراراً أننا كرماء، فمن المحتمل أن نبدأ بتبنّي هذا الشعور عن أنفسنا، ونبحث عن طرق تعزز من هذا الجانب في تصرفاتنا.
وفي المقابل، قد تُحدث التعليقات السلبية أثراً مضاداً، حيث تتسبب في إضعاف ثقتنا بأنفسنا أو تجعلنا نعيد التفكير في تصرفاتنا. على الرغم من أن قوة الشخصية تتحدد أحياناً بقدرتها على رفض الآراء السلبية أو قبولها باعتبارها نقداً بنّاءً، إلا أن هذا ليس سهلاً على الجميع. إن الأفراد، خاصة أولئك الذين يفتقرون إلى الثقة أو التجارب، قد يجدون أنفسهم عالقين في دوامة من الشك نتيجة تأثير كلمات الآخرين.
ثالثاً: ماذا يقول عنا من يتحدثون إلينا؟
عندما نتلقى أيّ تعليق أو ملاحظة من شخص ما، فإنه غالباً ما يكون انعكاساً لبعض جوانبهم الشخصية. على سبيل المثال، الشخص الذي يتمتع بحساسية عاطفية قد يميل إلى التركيز على جوانب معينة دون غيرها، ويتحدث عنها بتفصيل. بمعنى آخر، قد تكشف التعليقات التي نتلقاها من الآخرين جزءاً من شخصياتهم وتوقعاتهم، وليس فقط عما يعتقدونه عنا. لذلك، قد يكون من المفيد أن ننظر إلى آراء الآخرين كنافذة تطلعنا على قيمهم وتجاربهم، وأن نحاول استخلاص ما يهمنا منها دون أن ندعها تشكل هويتنا.
رابعاً: الحكمة في التعامل مع آراء الآخرين
الحكمة ليست فقط في قبول أو رفض ما يقوله الآخرون، بل في إدراك أهمية توازننا الداخلي. إذا استطعنا أن نتبنى موقفاً عقلانياً، نجد فيه مساحة لفحص ما يُقال من دون أن نجعلها تغمر مشاعرنا، سنكون قد وصلنا إلى مستوى من النضج. قد يتطلب هذا الأمر وقتاً وممارسة، خاصةً لمن لم يعتادوا على تحليل الكلمات والتعليقات.
أحد المفاتيح الهامة هنا هو امتلاك نظرة نقدية: هل هذا الرأي يعبر فعلاً عن حقيقة تخصني؟ أم أنه يعكس تجربة أو قناعة لدى الآخر؟ تلك المهارة تجعلنا قادرين على فلترة الآراء وتمييز ما يمكننا الاستفادة منه، وما ينبغي أن نتجاهله، وهو الأمر الذي يمكن أن يكون سبباً لراحة نفسية وشعور مستقر بالتوازن الداخلي.
خامساً: كيف نعيد صياغة هويتنا بعيداً عن آراء الآخرين؟
بعض الأشخاص يعيشون أسيرين للآراء المحيطة بهم، حيث يخشون اتخاذ خطوات خارج السياق خوفاً من النقد أو الرفض. لذا فإن إحدى خطوات التحرر من هذه القيود هي إعادة بناء الصورة الذاتية التي تعتمد على معرفة حقيقية. إن فهمنا لذاتنا يتطلب الشجاعة للبحث عن القيم والمبادئ التي تهمنا، والعمل على تحسين مهاراتنا وتجاربنا بناءً على طموحاتنا، وليس بناءً على توقعات الآخرين. عندما نجد القوة للثبات على ما نؤمن به، نكون قد بدأنا بالفعل في بناء هويتنا الأصيلة.
خاتمة: هل يؤثر ما يُقال على من نحن؟
إن رحلة معرفة الذات والتحرر من القيود الخارجية ليست بسيطة؛ فهي تحتاج إلى التأمل العميق، وتقبل الآراء بموضوعية، والعمل على تطوير الذات بصورة مستقلة. لا يمكننا أن نعيش في عزلة عن الآخرين، لكن يمكننا أن نعيش بتوازن داخلي يجعلنا قادرين على التعامل مع كلماتهم دون أن تؤثر على هويتنا الحقيقية. وفي نهاية المطاف، تبقى معرفة الذات وفهم هويتنا رحلة شخصية خاصة، لا يمكن لأي شخص آخر أن يسيرها نيابة عنا.
المقولة “من قال لك قال عنك” تعكس جوهرًا فلسفيًا يعبر عن العلاقة المتبادلة بين تصورات الناس لنا، وبين دوافعهم أو مشاعرهم الحقيقية.