فن وثقافة

الدار البيضاء: حينما فقدت المدينة بريقها وأصبحت الذكريات عزاءنا الوحيد

م-ص

مدينة الدار البيضاء، التي كانت في يوم من الأيام رمزًا للحيوية والتألق في المغرب، لم تعد كما كانت. في غفلة من الزمن، تغيرت معالمها وجمالها، وكأن المدينة فقدت بريقها الذي كان يجذب الجميع من كل الطبقات والفئات. شوارعها التي كانت تعج بالحياة أصبحت تشكو من حالة من الفوضى والتغيرات التي قلبت موازين الحركة اليومية لسكانها.

الترامواي: أمل تحول إلى معضلة

حينما تم الإعلان عن مشروع الترامواي، كان الكثيرون يرونه خطوة طموحة نحو تحسين النقل الحضري في المدينة. جاء المشروع ليحل مشاكل الازدحام المروري ويعطي بديلاً حضاريًا للنقل، لكن في المقابل، أثر بشكل عميق على ملامح وسط المدينة. التجار الذين لطالما كانوا النبض الحقيقي للمدينة، بدأوا يشتكون من تراجع تجارتهم. الأسباب واضحة، الشوارع التي كانت تعج بالزوار والمشترين أصبحت مقطعة، والحركة المرورية التي كانت تتدفق بحرية في السابق باتت تتعثر بسبب مسارات الترامواي.

الترامواي الذي كان من المفترض أن يكون حلاً، أفسد وسط المدينة في نظر الكثيرين. المشاة والتجار، الذين كانوا يعتمدون على حركة السير الطبيعية، وجدوا أنفسهم محاصرين في مدينة باتت شوارعها أشبه بمتاهة. ربما تكون وسيلة نقل حديثة، لكنها جاءت على حساب روح المدينة التي كانت تميز الدار البيضاء عن باقي المدن المغربية.

الدار البيضاء: بين الماضي والحاضر

الدار البيضاء اليوم لم تعد تغري أولئك الذين كانوا يتجولون في وسط المدينة، محملين بأفكار ثقافية وطموحات فكرية. أصدقاء الأمس، المثقفون الحقيقيون، الذين كانوا يرتادون المقاهي الثقافية في قلب المدينة، لم يعودوا يرون في المدينة مكانًا يلهمهم. المقاهي التي كانت تجمع الأدباء والمفكرين أصبحت مهجورة أو تحولت إلى محلات تجارية لا تهم سوى الربح السريع.

المكان الذي كان يشهد نقاشات فكرية وفنية ساخنة أصبح اليوم فارغًا من تلك الأرواح التي كانت تزرع فيه الحياة. التغيرات الاقتصادية والاجتماعية لعبت دورًا كبيرًا في هذا التحول. المدينة التي كانت تزهو بتاريخها، وجمال مبانيها ذات الطراز الأوروبي القديم، تبدو اليوم وكأنها استسلمت لفوضى التمدن السريع والبناء العشوائي.

تراجع البريق وانحسار الجمال

الدار البيضاء، التي كانت قبلة للأحلام والتطلعات، تواجه اليوم تحديات كثيرة تجعلها تبدو كما لو أنها فقدت تلك اللمسة الخاصة التي كانت تميزها. من تراجع البنية التحتية إلى مشاكل النظافة والتوسع العمراني غير المنظم، تشهد المدينة تغييرات لم تكن لصالحها. المباني الحديثة التي نمت بلا هوادة حولت معالم المدينة التقليدية إلى شيء يكاد يكون غريبًا على أهلها.

حتى على مستوى البيئة الثقافية والاجتماعية، لم يعد وسط المدينة يغري المثقفين والفنانين كما في السابق. الفضاءات الثقافية والفنية التي كانت تمثل ملتقىً لتبادل الأفكار والإبداع أصبحت اليوم نادرة، فيما تحولت الكثير من الفعاليات الثقافية إلى الضواحي، بعيدًا عن مركز المدينة.

النهاية: مستقبل الدار البيضاء

الدار البيضاء، برغم ما تواجهه اليوم، تبقى مدينة تحمل في طياتها إمكانيات هائلة، لكن ما نأمله من استعادة بريقها القديم يبدو، للأسف، من سابع المستحيلات. فقد حدث ما حدث، والتغيرات التي طرأت على المدينة باتت جزءًا من واقعها اليومي. الزمن لا يعود إلى الوراء، وما خسرناه من جمال المدينة وثقافتها أصبح جزءًا من الماضي الذي نحمله بحنين دفين في ذاكرتنا.

نظل نذكر تلك الأيام التي كانت فيها الدار البيضاء وجهة الأحلام، مدينة تجمع في شوارعها مزيجًا من الأصالة والتحديث، وتفتح أبوابها للمفكرين والفنانين، وللأرواح التي كانت تزرع فيها الحياة. اليوم، ومع كل ما طرأ من تغييرات سريعة وفوضوية، يبدو أننا لن نستطيع استعادة ذلك الجمال القديم، سوى في ذكرياتنا وحنيننا للماضي الذي ولى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى