كتب: حسن مزوزي
باحث في القانون ومحامي بهيأة المحامين بالقنيطرة
إن أصداء النقاش الدائر الآن حول مدونة الأسرة ما هو في الحقيقة إلا ضغوط عن قصد أو عن غير قصد تستهدف عملية الإصلاح الأسري المرتقب من قبل بعض الأصوات التي نصبت نفسها دفاعا إما عن توجه محافظ أو حداثي أو عن بعض التوجهات التي يصعب تصنيفها لغرابة شعاراتها, لقد تعالت الأصوات هنا و هناك و زادتها حدة وسائل التواصل الاجتماعي و المواقع الإلكترونية فتم حجب الرؤيا، و هي لعمري أجواء غير سليمة أريد لها أن تسود ممن اعتبروا أنفسهم حراس المعبد أو من بعض المبشرين بعهد أنوار أسري مغربي. إلا أن ما لم يتم استخلاصه من التاريخ -من قبل هؤلاء – هو أن الاضطهاد الكاثوليكي للفكر طيلة القرون الوسطى مهد الطريق للتيارات المناوئة للكنيسة كلها، حيث أبان على أن التعصب الأعمى للرأي الموروث ومقاومة الانفتاح لن يحولا دون التغيير كما أن المغالاة في شعارات الحرية والمساواة وحقوق الإنسان بدورها ساهمت في الإجهاز على النظام القانوني للأسرة وعلى صفتها كمؤسسة اجتماعية ترعاها و تحميها الدولة، وقد أدت الكنيسة ثمنا غاليا لموقفها المتصلب والمقاوم للانفتاح على الواقع عن طريق الاجتهاد ومسايرة حياة الناس وتصوراتهم إزاء علاقات التعايش الاجتماعي الخاضعة لسنة التطور.
إن الدعوة إلى نقاش يساهم فيه ذوي الخبرة من كافة التخصصات، ليست دعوة إلى احتكار فئة معينة لموضوع الإصلاح الأسري بقدر ما هي دعوة إلى نقاش هادئ يسمح بوضوح الرؤيا قصد تنزيل الإصلاح المنشود والذي لا يمكن حصره في تنزيل نصوص قانونية، بل يقتضي وبالضرورة معالجة أعطاب أخرى، أكد على ضرورتها خطاب العرش لسنة 2022، الذي رسم خريطة طريق بالنسبة للإصلاحات المزمع إجراؤها في مدونة الأسرة، حينما اعتبر أنها أصبحت غير كافية بعد أن أبانت التجربة عن عدة عوائق وقفت أمام استكمال مسيرتها وحالت دون تحقيق أهدافها، من بينها عدم التطبيق الصحيح لأسباب سوسيولوجية متعددة، سيما وأن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء وأن الأمر يقتضي تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها .
وتأسيسا على ذلك، فإن النقاش حول إصلاح مدونة الأسرة يجب أن يتناول إلى جانب النصوص المراد إصلاحها، الأسباب السوسيولوجية التي لم تساعد على تطبيقها التطبيق السليم، وما أدى إلى الانحراف عن أهدافها كما ورد في الخطاب الملكي المذكور.
وهي أمور تم تغييبها في النقاش الدائر وسط هذه الجلبة والصخب الذي ملأته مواقع التواصل الاجتماعي والتي تربع على قنواتها بعض “المؤثرين” يفتون فيها بكل ما أوتوا من حنكة للرفع من عدد متابعيهم ومريديهم ولو على حساب تغليط الرأي العام أو الانحراف بالإصلاح عن مساره، وذلك باجترار مواضيع”البوز” من قبيل التعدد الذي تتراوح نسبته بين 0,25 و0,30 في المائة أو موضوع الإرث الذي تم تحديد سقف النقاش فيه بعدم إباحة الحرام أو تحريم الحلال، أو عن طريق بعض السيناريوهات المختلقة التي تهم بعض المواضيع المتعلقة بزواج القاصر أو الولاية الشرعية .. فما هي الوصفة المنتظرة التي من شأنها معالجة الأسباب السوسيولوجية والتطبيق السليم للنصوص والانحراف الذي غير مسار المدونة؟ فهل يكفي تعديل بعض النصوص القانونية لمعالجة هذه الجوانب أم أن الأمر يحتاج آليات أخرى؟
أكيد أن الأمر يقتضي عدم التقوقع حول نصوص قانونية لا جدوى منها إلا عن طريق ضمان حسن تطبيقها، بعد أن أبانت التجربة عن محدوديتها بشهادة الخطاب الملكي المعتبر خريطة طريق الإصلاح الأسري المرتقب، بل يتعين إيلاء الجانب السوسيولوجي بالأهمية التي يستحق. وأعتقد أن معالجة هذا الجانب ليست بالأمر الهين الذي يقتضي التصدي له عبر تنزيل بعض المقتضيات القانونية، بل هي استراتيجية متكاملة من شأنها إعداد قاضي قادر على خلق الطفرة التي تحس معها الأسرة المغربية بكافة مكوناتها بالتغيير الإيجابي وخلق المجال للقاضي لإبداع أحكام مسايرة للواقع يطبق فيها وبكل جرأة القوانين الوطنية منها والاتفاقيات الدولية المصادق عليها، الخالية من التحفظات وهو ما يعني الاهتمام بورش إصلاح القضاء ككل، لخلق التربة التي يمكن أن ينشأ ويتربى في أحضانها، من أجل تنظيم أسري مساير وهو أمر ممكن تحقيقه وبدون تردد بدءا بالتعجيل بتنزيل النصوص القانونية التي ما فتئت قابعة في رفوف الوزارات يتقاذفها السياسيون وينتظر – بضم الياء – تنزيلها منذ تنزيل دستور سنة 2011 أي منذ ما يناهز عقد ونصف من الزمن في انتظار غودو.