فن وثقافة

مطرٌ يروي الأرض… ويروي القلوب

م-ص

ها قد حلّ المساء، وتهادت زخّات المطر على الأرض بهدوء، كأنها همسات الطبيعة للعالم الذي يعجّ بالضجيج، وغمر الشوارع كأنها رسائل خفية من السماء للأرض، دعوة للتأمل وللغوص في تلك اللحظات الهادئة. ينهمر المطر بهدوء أولاً، ثم يشتد شيئاً فشيئاً، يُغسل الأرض ويملأ الهواء برائحة الطين التي تملأ القلب بطمأنينة دافئة؛ وكأنها تذكيرٌ بالعودة إلى الأصل، إلى البساطة التي نسيها الجميع في زحمة الحياة.

رائحة المطر، هذا العطر العذب الذي يحمله النسيم، تحمل في طياتها ذكريات، نُبصر فيها صُورًا من الماضي البعيد، حيث البدايات الأولى، حيث الضحكات الصافية والقلب الذي لم يعرف سوى الحب. لحظات يعيدنا إليها المطر فنعود أطفالاً بلا قيود، نتراكض فرحين تحت زخاته، ونشعر بنشوة لا تضاهيها نشوة.

ليست الأرض وحدها التي تنتشي بالمطر، بل حتى الأشجار تقف فرحة مستقبلة القطرات كأنها تنتظرها منذ زمن، تميل أغصانها متعبة من عطش طويل، وكأنها تهتف “أخيراً… جاء المطر.” تحتضن الأوراق قطرات المطر بحب، تتراقص بفرح وتلمع تحت أضواء الشوارع، في مشهد يشبه الرقصة الأخيرة لقطرة ماء قبل أن تنساب وتختفي، تاركةً أثرًا خافتًا على الورقة، كأنها تذكار.

وفي البيوت، حيث يجلس الناس خلف النوافذ الدافئة، تُشعل الأضواء الخافتة في الداخل، وتتسع حدقات العيون مراقبةً المطر، تتوقف الكلمات وتتسرب الأفكار إلى السكون، وكأن في المطر جاذبية تستقطب إليها الحزن والفرح والحنين. كل قطرة تطرق النافذة تحكي قصة، كأنها موسيقى تُعزف على أوتار الزمن، لكل منا فيها لحنٌ مختلف يعزفه بصمت داخلي.

المطر ليس مجرد قطرات تسقط من السماء، إنه صديق وفيّ يُذكرنا بأن الحياة ليست صيفاً دائماً ولا خريفاً قاسياً، بل تتعاقب فيها الفصول لترتوي النفوس بفرح دائم. ففي كل شتاء، تجلب معها السماء أملًا جديداً، رسالة من خلف الغيوم تقول: “حتى الصعاب لها نهاية، حتى الأرض اليابسة يمكن أن تعود للحياة.” يهبنا المطر فصلاً من الغفران، يغسل همومنا كما يغسل الشوارع والأرصفة، ويعيد لنا شعورًا بالنقاء الداخلي، وكأن لكل قطرة وزنها في تطهير القلب وتخليصه من عوالق الزمان.

وتبقى حكاية المطر قصيدة لا تنتهي، تتجدد كلما حلّت السماء رمادية، وكلما سمعنا صوت الريح يوشوش بين الأرجاء. فما أجمل أن نلتف حول تلك الذكريات الممطرة، أن نستسلم لذلك الهدوء العميق، وأن نترك أرواحنا ترتوي من سحر المطر الذي يفتح أمامنا بابًا نطل منه على عالم من الحنين والمشاعر النقية، حيث الروح تجدد ميثاقها مع الفرح والسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى