مجتمع

التقادم في القانون المغربي: من قاعدة قانونية إلى أداة للعدالة أم لتجاوز المسؤولية؟

دابا ماروك

في مقالاتنا السابقة حول موضوع التقادم، تناولنا هذا النظام القانوني باعتباره ركيزة أساسية لضمان استقرار الحقوق والالتزامات، مشيرين إلى تأثيره البالغ على مختلف جوانب العدالة. وقد كان تركيزنا منصبًا على عرض المبادئ العامة ومدى تلاؤمها مع الواقع المغربي. واليوم، نسعى للغوص أعمق في هذا المفهوم لتحليل أبعاده المتعددة: كيف يُسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية من جهة، وكيف قد يُستغل كذريعة لتجاوز المسؤولية من جهة أخرى؟ وهل يبقى التقادم أداة محايدة، أم أنه يحتاج إلى إصلاح جوهري لضمان عدالته في سياقات قانونية متغيرة؟

أولاً: مفهوم التقادم في القانون المغربي               

  1. تعريف التقادم

التقادم في القانون المغربي هو نظام قانوني يؤدي إما إلى سقوط الدعوى أو اكتساب حق بعد انقضاء مدة زمنية محددة قانونًا. وينقسم إلى:

  • التقادم المسقط: الذي يمنع الحق في رفع الدعوى بعد انقضاء المدة القانونية.
  • التقادم المكسب: الذي يتيح للشخص اكتساب حق عيني بعد حيازته لفترة معينة.
  1. الأسس القانونية

ينظم قانون الالتزامات والعقود (ظهير 1913 المعدل) نظام التقادم في المغرب. ومن بين أهم النصوص:

  • الفصل 371: “التقادم لا يترتب عليه إلا فقدان الدعوى الناشئة عن الالتزام.”
  • الفصل 375: “يمكن التمسك بالتقادم في أية حالة كانت عليها الدعوى، ولو لم يذكره الأطراف.”
  • الفصل 389: الذي يحدد التقادم بخمس سنوات في الدعاوى المتعلقة بالديون التجارية.
  1. أنواع التقادم ومدده

تختلف مدد التقادم حسب نوع الدعوى:

  • الجنايات الكبرى: 15 سنة (الفصل 5 من قانون المسطرة الجنائية).
  • الديون التجارية: 5 سنوات (الفصل 389).
  • القضايا العقارية: تصل إلى 30 سنة.

ثانيًا: أهداف التقادم بين العدالة واستقرار المعاملات

  1. تحقيق الاستقرار القانوني والاجتماعي

يوفر التقادم آلية لإنهاء النزاعات وضمان استقرار المعاملات القانونية، حيث يمنع إعادة فتح الملفات القديمة التي قد تفقد أدلتها مع الزمن.

  1. حماية الأطراف من الملاحقات المفتوحة

يساعد التقادم على حماية الأفراد من الملاحقات القانونية الدائمة التي قد تُعطل حياتهم الاجتماعية والمهنية.

  1. تحفيز الأطراف على التحرك

يشجع نظام التقادم الأطراف المتضررة على المطالبة بحقوقها ضمن آجال محددة، مما يضمن فاعلية العدالة.

ثالثًا: التقادم كأداة لتجاوز المسؤولية

  1. استغلال التقادم لإفلات المذنبين

في القضايا الجنائية، يؤدي انتهاء أجل التقادم إلى إسقاط الدعوى الجنائية، مما يسمح لبعض المتهمين بالهرب من العقاب. مثال ذلك الجرائم المالية، حيث تنقضي الدعوى الجنائية بعد 5 سنوات، وهي مدة قد تكون غير كافية لكشف المخالفات.

  1. تأثير التقادم على حقوق الضحايا
  • في القضايا المدنية، يواجه الضحايا خطر فقدان حقوقهم نتيجة جهلهم بآجال التقادم.
  • على سبيل المثال، الفصل 377 ينص على أن التقادم يبدأ بمجرد علم الدائن بوجود الدين، مما قد يؤدي إلى جدل حول إثبات العلم.
  1. تفاوت مدد التقادم

يُثير اختلاف مدد التقادم انتقادات واسعة. فبينما تستفيد الجرائم المالية من تقادم قصير (5 سنوات)، تتمتع القضايا العقارية بمدد أطول بكثير تصل إلى 30 سنة، مما يعكس تفاوتًا في حماية الحقوق.

رابعًا: قراءة نقدية لنظام التقادم في القانون المغربي

  1. غياب التجانس بين مدد التقادم

تُظهر النصوص القانونية غياب معايير موحدة لمدد التقادم. مما يستدعي مراجعة شاملة لتوحيد هذه الآجال بما يضمن العدالة لجميع الأطراف.

  1. ضعف حماية الضحايا

يعاني الضحايا في بعض الحالات من غياب الدعم القانوني الذي يمكنهم من معرفة حقوقهم وآجال التقادم المرتبطة بها.

  1. إسقاط المسؤولية الجنائية في الجرائم الخطيرة

يُعد التقادم في الجرائم الكبرى مثل الفساد المالي والمخالفات البيئية تحديًا كبيرًا، حيث تتطلب هذه الجرائم مددًا أطول بسبب تعقيد التحقيقات.

خامسًا: مقترحات للإصلاح

  1. تعديل مدد التقادم
  • الجرائم المالية: تمديد التقادم إلى 15 سنة لمواءمة الأجل مع تعقيد القضايا.
  • القضايا العقارية: تقليص المدة إلى 20 سنة لتسريع البت في النزاعات.
  1. اعتماد استثناءات في الجرائم الكبرى

إلغاء التقادم أو تمديده بشكل ملحوظ للجرائم الكبرى مثل جرائم الفساد، جرائم الحرب، والمخالفات البيئية.

  1. تعزيز الوعي القانوني
  • إطلاق حملات توعية حول مدد التقادم.
  • توفير خدمات استشارية مجانية للضحايا بشأن حقوقهم القانونية.
  1. مراجعة النصوص القانونية
  • تعديل الفصل 375 ليصبح من الضروري إثارة التقادم بشكل صريح من الأطراف قبل انتهاء أجل الدعوى.
  • ضمان حماية أكبر للضحايا عبر اعتماد مدد استثنائية في بعض القضايا المدنية.

خاتمة

يبقى التقادم أداة قانونية ذات أبعاد متعددة، تجمع بين ضمان استقرار المعاملات وتحقيق العدالة من جهة، وبين مخاطر استغلالها للهروب من المسؤولية من جهة أخرى. لذا، فإن إصلاح نظام التقادم في المغرب يتطلب رؤية شاملة تراعي طبيعة النزاعات وتحقق التوازن بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة. ومن هذا المنطلق، يبقى تطوير النصوص القانونية وتعزيز الوعي المجتمعي حجر الزاوية في تحقيق عدالة أكثر شمولية وفعالية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى