مراكش الحمراء: حكايات ثلاثة أيام من السحر والتناقضات
عبد المجيد السعيدي
اليوم الأول: الوصول والاستكشاف الأولي
وصلت إلى مراكش منتصف النهار، حيث يطغى وهج الشمس على كل شيء. أولى محطاتي كانت حي كليز، القلب النابض للمدينة العصرية. هناك، وجدت نفسي أمام أشهر مطعم شعبي في المنطقة. الطاولات مكدسة بأطباق الطاجين والبسطيلة، والأصوات تملأ الأجواء؛ أصوات السائحين والمغاربة يختلطون في تناغم غريب. طلبت وجبة بسيطة – طاجين بالدجاج والليمون المخلل – وجلست أراقب الوجوه المحيطة.
بعد الوجبة، بدأت رحلة البحث عن مكان للإقامة. الفنادق المصنفة بعدة نجوم بدت بعيدة عن متناول إمكانياتي، فقررت النزول عند أحد الفنادق المتوسطة. لم يكن المكان فاخرًا، لكنه كان كافيًا ليحميني من النوم في غرفة بلا تهوية تستقطب العصافير. بمجرد دخول الغرفة، ألقيت جسدي المنهك على السرير. بدا لي أن استراحة قصيرة كانت كل ما أحتاجه قبل استكشاف ما تحمله مراكش تحت جنح الظلام.
الليلة الأولى: أولى خطوات السهر
حين استيقظت، كان الليل قد حل وأضواء مراكش بدأت تلمع. قررت احتساء قهوة لاستعادة نشاطي قبل الخروج. جلست في مقهى صغير على زاوية شارع، حيث أضواء المدينة الليلية تتراقص كأنها تدعوك إلى مغامرة لا تُنسى. شعرت بالإثارة تنبض في عروقي، وبدأت أتساءل عمّا يدور خلف أبواب الملاهي الليلية.
دخلت أول ملهى ليلي صادفته، وكانت الأجواء كما توقعت، ضوضاء موسيقى صاخبة، وأضواء متوهجة. بين الطاولات المزدحمة، لمحت فتيات صغيرات كان يجب أن يكن على مقاعد الدراسة. لم تكن البهجة الحقيقية ما يظهر على وجوههن، بل مزيج من الحزن المغلف بأقنعة من الابتسامات المصطنعة.
إحداهن، ترتدي فستانًا لامعًا بألوان زاهية، تتحدث مع مجموعة من السائحين، حيث كانت تحاول أن تبدو مرحة وسعيدة. من الواضح أن كل واحدة منهن تحمل في قلبها قصة، ربما تشبه سيناريوهات الأفلام الدرامية المليئة بالتضحيات والألم.
اليوم الثاني: بين الأسواق الشعبية والمدينة القديمة
استيقظت متأخرًا بعض الشيء. قررت أن أستغل ما تبقى من النهار لاستكشاف المدينة القديمة. بدأت جولتي في ساحة جامع الفنا، المكان الذي يجسد روح مراكش بامتياز. الباعة المتجولون يملأون الساحة بأصواتهم، يبيعون كل شيء من التوابل إلى المشغولات اليدوية. كانت الروائح تفوح من كل زاوية، خليط من الكزبرة، والزعفران، والنعناع.
مررت بأحد الزقاق الضيقة، حيث المحلات الصغيرة التي تعرض القفاطين والمجوهرات التقليدية. هناك، التقيت برجل مسن يعمل في حياكة القفطان منذ أربعين عامًا. تحدث معي عن تاريخ الحرفة وعن تغير أذواق الزبائن. شعرت وكأنني أستمع إلى فصل من كتاب تاريخ شفهي.
عند الغروب، عدت إلى الفندق لأستريح قليلاً قبل الخروج مرة أخرى. هذه المرة، قررت أن أزور مكانًا أقل صخبًا، مقهى تقليدي يقدم الشاي المغربي. جلست أراقب الناس وهم يمرون من أمامي، الأزواج، السياح، والعائلات. كل شخص يحمل قصته الخاصة.
الليلة الثانية: اكتشاف أعمق لليل مراكش
قررت العودة إلى أحد الملاهي الليلية لأرى جانبًا آخر من حياة الليل. لكن هذه المرة، كنت أكثر انتباهًا للتفاصيل. لاحظت كيف تتحول هذه الأماكن إلى بوتقة تذيب كل الفوارق الاجتماعية. الأغنياء والفقراء، المحليون والسياح، الكل يبحث عن المتعة والهروب من الواقع.
كانت هناك فتاة أخرى لفتت انتباهي. تبدو وكأنها تعيش في عالمها الخاص، ترقص وحيدة وسط الزحام. كانت عيناها تحملان شيئًا من الحزن العميق، وكأنها تحاول أن تنسى شيئًا ما. لم أستطع منع نفسي من التساؤل: ما الذي دفعها إلى هنا؟
اليوم الثالث: وداع مراكش
في صباح اليوم الأخير، قررت أن أزور حدائق ماجوريل، ملاذ هادئ بعيد عن ضوضاء المدينة. هناك، تأملت جمال الطبيعة وهدوئها. شعرت أنني بحاجة إلى هذا السلام قبل العودة إلى حياتي اليومية.
قبل المغادرة، عدت إلى ساحة جامع الفنا لتناول وجبة أخيرة. بينما كنت أتناول الشاي، شعرت بأن مراكش ليست مجرد مدينة، بل هي مزيج من التناقضات، بين القديم والجديد، بين الفقر والغنى، بين السعادة والحزن.
الخاتمة
كانت ثلاثة أيام في مراكش كافية لتجعلني أدرك أن هذه المدينة تحمل في طياتها قصصًا لا تنتهي. من الأسواق الشعبية إلى الملاهي الليلية، ومن الفتيات اللواتي يحملن أحلامًا محطمة إلى الحرفيين الذين ينسجون قصصهم في كل قطعة يصنعونها. مراكش ليست مجرد وجهة سياحية، بل هي لوحة نابضة بالحياة تحتاج إلى تأمل عميق لفهمها.