دابا ماروك
في زمن أصبحت فيه الكوارث الإنسانية مجرد أخبار جانبية على صفحات الصحف، يأتي قارب صغير، كأنّه نجم سينمائي ليحتل العناوين: “عائلة تُسافر نحو جزيرة جانزاروت، لكن ليس كما يتوقع الجميع!” القارب مكتظ بالمهاجرين من جنوب الصحراء، وكأنهم علب سردين معروفة، ولكن الفرق أن هؤلاء السردين يحملون أحلاماً أكبر من المدى الذي يستطيع البحر أن يحتويه.
تخيلوا المشهد: قارب صغير جدًا، يتسع لعشرات الأرواح المحشورة داخل هيكل خشبي قديم، يطوف في بحر من الملوحة والمخاوف. تماسكوا! فحتى الأمل في هذا القارب ليس سوى كبريت مشتعل في مواجهة البحر البارد. ولكن، ماذا يحدث؟ طفل يولد! نعم، لقد قررت الحياة أن تكون أصغر من أن تتوقف عن الحلم، وأن تتصدى للموج بشجاعة غير متوقعة. ولدت طفلة في تلك اللحظة الصعبة. وعلى الرغم من البحر، من المأساة، من كل شيء، فإن العالم ضحك لحظة واحدة، لحظة التي حملت فيها السماء لطفل جديد، وسط عاصفة كانت ستقتله.
لحظة ولادة، ولكن هذه المرة ليست مجرد لحظة تكررت آلاف المرات على مدار التاريخ، بل لحظة ترتبط بجدل مهم: “هل كانت هذه العاصفة سببًا في أن يغير هذا الطفل مصير أهله؟” وبينما تصرخ الأم بين الألم والفرح، فإن الأب الذي كان يبحث عن “مستقبل أفضل” في عمق البحر، لم يدرِ أن الموج قد عانق حلمه في أحضان هذا الطفل الصغير، الذي أصبح الآن في قلب محيط سياسات الهجرة التي لا ترحم.
ورغم أن القارب يحمل فقط مجاديف مهترئة وأحلام مبتورة، إلا أن الحياة قررت أن تتحدي الظروف وتُخرج الطفل إلى هذا العالم. كيف؟ الله وحده يعلم. قد تكون القوات البحرية التي اقتحمت المشهد فجأة، قد قامت بدور بطولي مع عملية إنقاذ شبه هوليودية، ولكن لنكن واقعيين هنا. من هؤلاء الأشخاص الذين يتحدون كل ما يواجههم؟
الإجابة ربما تكون أسهل مما نتخيل: إنهم البشر، الذين يتحدون كل شيء، حتى لو كان الثمن هو الحياة نفسها. هم الذين يعتقدون أن الكرامة تستحق العناء، حتى وإن كانت تلك الكرامة متشبعة بالماء المالح، وتحت رحمة أسماك القرش.
وفي هذه الأثناء، يظهر سؤال ساخن: “هل سيمنح الاتحاد الأوروبي هذا الطفل ‘جواز سفر شرفي’ لأنّه وُلِد عند أبوابهم؟” أم أن سياسات الهجرة ستعتبره مجرد “لاجئ” يبحث عن مكان تحت الشمس؟
هذه القصة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. فهذا العالم مليء بمآسٍ مشابهة، وكل رحلة مهاجر تحمل في طياتها آلامًا وأحلامًا تكتنفها البحر. لكن السؤال الأهم هو: متى سنبدأ التعامل مع هذه القضايا بجدية أكبر من مجرد “مأساة منسية”؟
بينما يحتفل الجميع بميلاد هذا الطفل، ويبقى والداه يتساءلان عن مستقبلٍ غير معروف، تظل الحقيقة ثابتة: هذه تراجيديا العصر الحديث، والعالم لا يبدو مستعدًا لتغيير قواعد اللعبة. ربما يكون هذا الطفل رمزًا للتغيير… أو مجرد فصل آخر في قصة طويلة مليئة بالمآسي الساخره.
خاتمة
رغم السخرية التي تحاول هذه القصة إظهارها، فإن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن العالم يحتاج إلى قراءة أكثر إنسانية للواقع. فالحلول الأمنية لن تكون كافية أبدًا. إذا كانت المخاطر هي الخيار الوحيد، فماذا سيكون الخيار الأفضل بالنسبة للمجتمعات التي لا ترى إلا بعد حدودها؟