حانات تبني.. حيث تُربّى الصراصير وتُدفن الأحلام
فريد الناسي
مرحبًا بكم في مملكة الحانات الحقيرة، تلك المستنقعات الاجتماعية التي لا تفوح منها رائحة الكحول فقط، بل تُنشر منها أيضًا نتانة الإحباط المتراكم على مدار عقود. هنا، تُنسج حكايات اليأس وسط أجواء لا تحتفي إلا بالفشل. الأحلام تُدفن في ظلال الكؤوس، والصراصير تعيش ازدهارًا غير متوقع في حضانات منسية.
أهلاً بك في مكانٍ أوقف فيه الزمن عدّاده، لكن ثرثرة الفاشلين تملأ الأبد
في تلك الزاوية الضيقة، حيث تتراقص الأضواء الباهتة على وجوه مرهقة، وحيث يُسكب الوقت في كؤوس رخيصة، تجتمع الأرواح الهاربة من واقعها. هنا، لا فرق بين من جاء لينسى ومن جاء ليضحك؛ الكل يقتسم الطاولات وكأنها محطات انتظار لحياة أفضل لن تأتي.
في الحانة الرخيصة، الكلمات أرخص من المشروب، تُلقى على عجل بين النكات الثقيلة وقصص النجاح التي لم تُكتب قط. هنا، كل واحد بطل رواية يرويها مرارًا لجمهور تغيّر أبطاله مع كل جلسة.
لكن الحقيقة تبقى واحدة: الحانة الحقيرة ليست سوى مرآة تعكس خيبات من جلسوا فيها، حيث تنتهي الأحلام على حافة طاولة وتبدأ أخرى من جديد، مع أول كأس يُرفع وكأنها بداية فصل جديد من العبث.
ديكور الحانة: تجسيد الانحطاط
عند دخولك الحانة، تشعر وكأنك تعبر بوابة زمنية إلى عصر انحطاط أبدي. الجدران المتهالكة، التي تكسوها بقع الرطوبة وشبكات العنكبوت، تروي قصصًا لم تُروَ لأحد سوى للصراصير المقيمة هناك. شقوق الحائط تكاد تُنطق بأحزان زوارها السابقين، فيما تراقبك الصراصير وكأنها تتفحصك في اختبار للنجاة.
أما الكراسي الخشبية، فتئن تحت ثقل الجالسين وأثقال همومهم. مظهرها يوحي بأنها لم تتغير منذ الاستقلال، تحكمها أصوات الصرير في كل حركة، وكأنها تُقاوم الانهيار في كل لحظة. الطاولات من جانبها تحمل بصمات الأجيال الضائعة: أسماء محفورة، وعبارات عشوائية، ورسوم بدائية تحكي عن أشخاص مرّوا هنا بحثًا عن عزاء أو هروب.
غالبا ما يكون حديث بعض الجماعات عن جلسة في مكان آخر أو عن الشخص الذي يرونه تفوق عنهم وسبقهم بكيلمترات واضحة.
يتحدثون بحسرة مبطنة أو تهكم مفضوح، يقارنون بين “نجاحه” و”خيباتهم”، بينما يبررون تأخرهم بمبررات لا تنتهي: “عنده الحظ”، “عنده معارف”، أو تلك العبارة الشهيرة: “إحنا ما عندنا زهر”. يستمرون في سرد تفاصيل الجلسات السابقة، كأنها محطات لمراجعة إخفاقاتهم، دون أدنى محاولة لفهم أن الفرق الحقيقي بينهم وبينه هو العمل، الجرأة، وربما القليل من الحظ… لكن بالتأكيد ليس الكثير من الكلام الفارغ.
روّاد الحانة: أبطال قصص الفشل المتكرر
رواد الحانة ليسوا مجرد أشخاص؛ بل هم نماذج حيّة للهروب من الواقع. هنا، لا مكان للناجحين؛ الحانة ليست إلا مسرحًا دائمًا لدراما الفاشلين الذين يروون ذات القصة كل ليلة، مع تغيير بسيط في التفاصيل.
النموذج الأول: أستاذ العد التنازلي
هو في الغالب شخص قضى حياته يبحث عن مبررات لفشله. يجلس دائمًا في الزاوية المظلمة للحانة، يحيط به دخان سجائره وكأسه المريب. يبدأ حديثه بجملة ثابتة:
“النجاح؟ كذبة كبيرة! العالم مليء بالظلم!”
يقضي أمسياته في جلد ذاته وجلد من حوله، يلوم الحكومة، الأصدقاء، وحتى الطقس.
النموذج الثاني: عاشق الفراغ الأزلي
يمسك بكأسه وكأنها أعظم إنجازاته، يحدّق في الفراغ وكأن الكون مدين له بإجابات لم يسأله عنها أحد. يستمع لقصص الآخرين دون تعليق، ثم يختتم الليلة بجملة بائسة مثل:
“العيش؟ مجرد صدفة عبثية.”
النموذج الثالث: شاعر الإخفاقات
يُعتبر نجم الحانة بفضل “إبداعه”. يكتب أشعارًا على المناديل الورقية، تتحدث دائمًا عن الفقد، الظلم، والخيانة. ينهي كل بيت شعري بنغمة حزينة، وكأنه ينتظر تصفيقًا من الصراصير.
النموذج الرابع: متسول الجعة المحترف
هذا النموذج يختبئ خلف ابتسامة ودودة ومظهر قصير ومتواضع، لكنه يحمل مهارة مكتسبة في استغلال الكرم الزائد لرواد الحانة. يجلس بقرب أي شخص يحمل كأسًا ممتلئًا، ويتحدث بنبرة منخفضة مليئة بالشكوى:
“أخي، هل يمكن أن تتكرم عليّ بكأس صغيرة؟ لقد كانت حياتي أفضل قبل أن يخونني الحظ.”
رغم أنه يتنقل من طاولة إلى أخرى، إلا أنه يحرص دائمًا على أن يبدو وكأنه زبون دائم. يعرف الجميع قصصه، التي يغيّر تفاصيلها يوميًا ليُبقي على عنصر الإثارة. أحيانًا يكون ضحية اقتصاد منهار، وأحيانًا أخرى ناجٍ من قصة حب مأساوية. وبنهاية الليل، يغادر الحانة بنفس الطريقة التي دخلها بها: جيوب خاوية، لكن معدة ممتلئة بما جمعه من أكواب الغافلين.
“في الحانة، متسولو الجعة ليسوا غرباء؛ بل هم جزء أصيل من مسرح البؤس.”
النموذج الخامس: البوّاب المصور
طويل القامة، عريض المنكبين، لكنه صغير العقل بحجم حبة خردل. قضى سنوات يعمل بوّابًا لدى مكتب رجل راحل، حيث كانت مهمته الأساسية فتح الأبواب وغلقها، إلى أن قرر أن يفتح بابًا آخر من خلال “تصوير” رغيف لنفسه.
في الحانة. هنا، وجد مهنة جديدة: “المصور الحائر”، حيث يتنقل بين الطاولات متسولا كأس نبيذ، مستعرضًا “حسن سيرته” وقامته وكأنها علامة على أهمية مزعومة.
يجلس أمام أي جمهور متاح، يضع يديه على الطاولة بثقة زائفة، ثم يبدأ الغوص في مواضيع الشرب والكلام الفارغ، وكأنه خبير في كل شيء، من النقاش العقيم، إلى وصفات الطاجين المغربي. يمطر المستمعين بحكمه العجيبة وتحليلاته التي تفتقر لأي منطق، بينما يهز رأسه وكأنه يوزع دروس الحياة مجانًا. في النهاية، يغادر المكان تاركًا وراءه من يؤدي ما احتسى وأجواء من الحيرة والابتسامات الساخرة.
مظهره يُستخدم كأداة لإثارة إعجاب المبتدئين في الحانة، لكنه سرعان ما ينكشف عند أول نقاش جاد. وبينما يُلقي بمحاضراته الفارغة، يتسلل بمهارة ليطلب مشروبًا مجانيًا، متذرعًا بأنه يستحق “مكافأة على وقته الثمين.”
رغم طوله البارز، إلا أن أحلامه وطموحاته لا تتجاوز طول سيجارة.
الحانة المعنية: مسرح الفشل الجماعي
الحانة الحقيرة ليست مجرد مكان؛ إنها كيان يتغذى على بؤس مرتاديه. الجدران تشهد على كل دمعة، وكل تنهيدة، وكل محاولة فاشلة للنهوض. أحلام الشباب تُدفن هنا، لتترك مجالًا لصراصير الحانة كي تزدهر.
إنها ليست مجرد حانة؛ إنها مقبرة مفتوحة للأحلام الضائعة، حيث يعيش البؤس ويزدهر الفشل.
وفي مثل هذه الحانة الحقيرة، حيث يلتقي الفاشلون وتتناثر كلماتهم كالسموم، يبقى الأمل في أيدي الذين لم يتلوثوا بعد. أما البقية، فيظلوا هناك، يتبادلوا النميمة تحت سقفٍ لا يحمل سوى العفن والتراجع.
وبينما يلوح الفشل كظلٍ ثقيل في حانات النميمة، يبقى النجاح بعيدًا، لا تُستَحقُّه إلا القلة التي ترفض العيش في أكاديمية الحقد والفشل. هؤلاء لا يعلمون أن القاع لا يكون إلا بداية لمن يرفض الغرق.