ازدواجية المواقف في العمل النقابي: بين التمثيل والمصداقية
دابا ماروك
القصة التي رواها هذا الصديق عن القائد النقابي تحمل في طياتها أبعادًا أعمق من مجرد حكاية عن تبديل الملابس. إنها تُسلط الضوء على ازدواجية المواقف، التي باتت آفة تؤرق العمل النقابي والمجتمع ككل. حين يظهر القائد النقابي بملابس متواضعة أمام القواعد العمالية، ثم يُطل على النخب بملابس تحمل توقيع أرقى المصممين، فإن ذلك ليس مجرد تغيير في المظهر، بل هو رسالة ضمنية تعكس تناقضًا بين ما يُعلن عنه وما يُمارسه فعليًا.
هذه الواقعة البسيطة قد تكون نافذة لفهم إشكاليات أوسع تتعلق بمصداقية القيادة النقابية، وقيمة الصدق في التمثيل النضالي، وأثر التناقض على العلاقة بين القواعد والقيادة. هنا يصبح السؤال المركزي: هل ما نراه هو تناقض في المظهر فقط، أم هو انعكاس لتناقض أعمق في الفكر والممارسة؟
أولاً: رمزية اللباس في العمل النقابي
اللباس ليس مجرد مظهر خارجي؛ بل هو لغة رمزية تنقل رسائل عميقة للآخرين. عندما يظهر القائد النقابي بلباس “متواضع” في مقر النقابة، فهو يقدم صورة تعكس انتماءه إلى الطبقة العاملة وتواضعه الذي ينسجم مع مبادئ العمل النقابي. ولكن، عندما يتحول هذا اللباس إلى أداة تمثيلية تخدم أهدافًا شخصية، يصبح الأمر أقرب إلى الخداع من التعبير الصادق.
ظهوره على شاشة التلفاز بملابس تحمل توقيع مصممين عالميين يعكس تناقضًا واضحًا بين ما يُظهره أمام القاعدة النقابية وما يُقدمه للنخب. هذه الازدواجية تطرح تساؤلات جوهرية عن أصالة القائد النقابي: هل هو فعلاً ممثل صادق للمطالب العمالية، أم أنه يستخدم منصبه لتحقيق مكاسب شخصية وشكلية؟
ثانيًا: ازدواجية المواقف وتأثيرها على العمل النقابي
الأزمة هنا ليست في ارتداء ملابس أنيقة، فالأناقة ليست عيبًا ولا تُعارض العمل النقابي أو النضال، ولكن الإشكالية تكمن في استخدام المظاهر لخداع القواعد الشعبية وإظهار الانسجام مع علية القوم في الوقت نفسه. هذه الازدواجية تؤدي إلى فقدان الثقة بين القائد وأفراد الطبقة العاملة التي يُفترض أن يمثلها، وتزرع الشكوك حول مصداقية النوايا والأهداف.
النقابة ليست مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب شخصية أو ترسيخ مكانة اجتماعية، بل هي منصة للنضال من أجل حقوق العمال وتحقيق العدالة الاجتماعية. وعندما يصبح القائد النقابي أسيرًا لصورة زائفة، فإنه ينحرف عن هذا الهدف النبيل، مما يُفقد العمل النقابي مصداقيته وجدواه.
ثالثًا: التمثيل كآفة في العمل النضالي
التمثيل أو “التظاهر” سلوك يُضعف أي حركة نضالية، سواء كانت نقابية أو سياسية. عندما يتخذ القائد النقابي مواقف متناقضة بناءً على السياق والجمهور، فإنه يرسل رسالة بأن القيم والمبادئ قابلة للتفاوض، وهو ما يقوض أي مشروع تغييري أو إصلاحي. القواعد الشعبية تتطلع إلى قائد يحمل همومهم بصدق وشفافية، لا إلى من يستخدمهم كوسيلة لبلوغ أهداف شخصية أو تحسين صورته.
رابعًا: كيف يُمكن معالجة هذا التناقض؟
- تعزيز الشفافية: يجب أن يكون القائد النقابي نموذجًا للنزاهة والوضوح، بحيث تكون ممارساته متسقة مع مبادئه المُعلنة. الشفافية تُعتبر أحد الأسس الرئيسية لإعادة بناء الثقة بين القائد والقواعد.
- التركيز على القيم الجوهرية: العمل النقابي يجب أن يُبنى على التضامن والمساواة. إذا أراد القائد النقابي ارتداء الملابس الأنيقة، فلا بأس في ذلك بشرط أن يكون هذا خيارًا يعكس شخصيته الحقيقية وليس محاولة لخداع الآخرين.
- المحاسبة الداخلية: على النقابات أن تُفعل آليات رقابة داخلية لضمان أن تكون أفعال القادة النقابيين متسقة مع رسالتهم ومبادئهم، وأن لا يُستخدم العمل النقابي كوسيلة لتحقيق مكاسب شخصية.
- التواصل الصادق: يحتاج القائد النقابي إلى خطاب صادق ومباشر مع القواعد والنخب على حد سواء، بحيث ينقل الرسالة نفسها دون ازدواجية أو تزييف.
خامسًا: الأناقة بين الحق والتمثيل
ليس من الخطأ أن يكون الإنسان أنيقًا، سواء كان قائدًا نقابيًا أو فردًا عاديًا، لأن الأناقة تعبر عن الاحترام للنفس وللآخرين. ولكن الفرق بين الأناقة والتمثيل يكمن في النوايا والسياق. الأناقة الحقيقية تعكس شخصية الإنسان، بينما التمثيل يُستخدم كوسيلة لإخفاء نوايا أخرى أو لتزييف الواقع.
ختامًا: القيادة النضالية بين المثال والواقع
القصة التي أوردها الصديق ليست مجرد حكاية عن شخص واحد، بل هي صورة مصغرة لواقع أوسع يعاني منه العمل النقابي أحيانًا. القيادة النقابية تحتاج إلى رموز حقيقية تعبر عن مطالب العمال بصدق وإخلاص، وتحترم القيم التي قامت عليها النقابات. أما القادة الذين يُظهرون وجوهًا مختلفة حسب الجمهور، فهم يُسهمون في تقويض ما تبقى من الثقة في العمل النقابي، مما يؤثر على مصداقيته كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية. لذا، فإن مواجهة مثل هذه المظاهر تحتاج إلى وعي جماعي ومحاسبة مستمرة من القواعد الشعبية، ليبقى العمل النقابي أداة للتغيير وليس ساحة للاستعراض.