الصحافة.. مهنة الجحود وشرف الكلمة المقدسة
محمد صابر
في عالم يزداد تعقيدًا وتداخلًا بين الواقع الاجتماعي ودور الإعلام، يقف الصحفي أو الإعلامي في المغرب، كما في أي مكان آخر، كمرآة تنعكس عليها صورة المجتمع، بكل ما تحمله من تناقضات بين الجمال والتشوهات. ليست الصحافة مجرد مهنة تُمارس، بل هي رسالة تتطلب جرأة، صدقًا، واستعدادًا دائمًا لخوض معارك من أجل الحقيقة. لقد أصبحت “مهنة المتاعب” هذا الوصف الذي يلازمها، ليس فقط بسبب ضغوط العمل الشاقة، بل لأنها تتطلب مواجهة مستمرة مع القضايا الملتهبة التي تمس جوهر حياة الناس.
لطالما كانت الصحافة مهنة تُوصف بالنبل والشرف، حيث يُؤمن الصحفيون بقدرتهم على إحداث التغيير وتسليط الضوء على القضايا التي تمس المواطن وتُعنى بالمصلحة العامة. ومن هذا المنطلق، وجد الصحفي نفسه، في كل الأوقات، أمام معركة شرسة مع الفساد، الإهمال، وسوء التدبير. معركة يخوضها بسلاحه الوحيد: الكلمة الصادقة التي تنبع من ضمير حي وإيمان عميق برسالته.
بين جدية المهنة وسماسرة الكلمة
حين نتحدث عن الصحافة بمفهومها النقي، فإننا نتحدث عن رسالة مقدسة تحمل بين طياتها هموم المجتمع وآماله. لكنها ليست مهنة سهلة؛ فالصحفي الذي يختار التعامل معها بجدية وصراحة يواجه مصاعب كثيرة، تبدأ من العيش المتقشف وتنتهي بمفارقة الحياة قانعاً بما قدمه، غير آبه بمغريات العالم المادية.
ورغم الجهد المبذول، فإن الصحافة في المغرب – كما في العديد من البلدان – ليست بمنأى عن استغلال المتربصين الذين يُطلق عليهم لقب “سماسرة الكلمة”. هؤلاء الذين وجدوا في الصحافة جسراً للاغتناء السريع، مستغلين اسم المهنة وقيمتها الاجتماعية لتحقيق مكاسب شخصية، متناسين أن الكلمة أمانة، وأنها تُستخدم لتنوير العقول لا لتضليلها.
إيماننا بدور الإعلام في الإصلاح
في مسارنا الإعلامي، دأبنا على فتح الملفات التي تُقلق بال الرأي العام، بغض النظر عن حساسيتها أو الجهة التي تتعلق بها. نرى في الإعلام مرآة للمجتمع وأداة تُنبه المسؤولين إلى مكامن الخلل التي تحتاج إلى إصلاح أو معالجة.
ولكن ما يميز عملنا، هو تجاوزنا مجرد النقد السلبي، إذ لا نتوقف عند تسليط الضوء على المشكلات فقط، بل نُحاول تقديم بدائل عملية وحلول مقترحة. حتى وإن كان الطرح يحمل أحياناً أسلوباً ساخراً يمزج بين البكاء والضحك، إلا أنه يبقى نابعاً من وجع حقيقي يحمل في طياته أمل التغيير.
رسالة بعيدة عن الاستعراض
لم نهدف يوماً من خلال ما نطرحه إلى البحث عن أمجاد شخصية أو استعراض العضلات، بل كان دافعنا دائماً هو الإيمان العميق برسالتنا الإعلامية. وحين تتحقق حلول أو معالجات لما أثرناه من قضايا، فإننا نمتنع عن ذكر ذلك لا تجاهلاً، بل لأننا نعتبر ذلك جزءاً طبيعياً من مسؤوليتنا، وليس إنجازاً يُحسب لنا. دورنا هو تسليط الضوء على القضايا، وتحريك عجلة الإصلاح، إيماناً بأن الكلمة الصادقة تترك أثرها دون ضجيج.
الموت شريفاً في سبيل الكلمة
الصحفي الحقيقي لا يسعى للشهرة الزائفة أو الثروات المادية. إنه ذلك الذي يلتزم بالمبدأ، يقف أمام الحق، ويدفع ثمن صدقه. هذه المهنة الجحود تكافئ من يُخلص لها بالعزلة عن “السوق”، لكنها تمنحه احترام النفس والعيش بكرامة.
إن اختيار الصحافة بجدية يعني الموت شريفاً، بعيداً عن مظاهر الثراء المزيف الذي يُحصل عليه بعض المتطفلين على المهنة. هؤلاء الذين يُحرفون الكلمة عن مسارها، ويجعلون منها وسيلة للابتزاز أو الترويج لأجندات مُعينة، مخالفين بذلك كل القيم الأخلاقية والإنسانية التي تُفترض في الصحفي.
رسالة تنويرية للمجتمع والمسؤولين
دور الصحفي لا يقتصر فقط على كشف الحقائق، بل يتجاوزه إلى خلق وعي لدى المواطن والمسؤول على حد سواء. وهو دور يتطلب شجاعة كبيرة، لأن الصحافة الحقيقية لا تعرف التملق أو النفاق. ورغم كل الجحود الذي يُلاقيه الصحفيون في مسارهم المهني، يظل الهدف الأساس هو تنوير الرأي العام وإيصال الحقيقة.
ختاماً: الكلمة أمانة ورسالة
إن الصحافة ليست مجرد وظيفة، بل رسالة إنسانية سامية، تتطلب ممن يشتغل بها أن يكون مؤمناً بقدرتها على التغيير. ورغم كل العراقيل والضغوط، تبقى الكلمة الصادقة وسيلة للتعبير عن نبض الشارع وأداة لإصلاح ما يمكن إصلاحه.
أما أولئك الذين اختاروا المتاجرة بالكلمة، فالتاريخ كفيل بأن يُسقط أقنعتهم ويُظهر حقيقتهم. فالصحفي الذي يُخلص لمهنته لا يغتني مادياً، لكنه يترك أثراً عميقاً في ضمير المجتمع الذي يخدمه.