مجتمع

وضعية المتقاعدين في مجتمعنا: غياب قيمة العنصر البشري

لماذا لم نتعلم في مجتمعنا إعطاء قيمة مضافة للعنصر البشري؟

دابا ماروك

في المجتمعات التي تحترم شعوبها، يُعتبر العنصر البشري محورًا أساسيًا في النجاح والتقدم. فمثلاً، في العديد من الشركات العالمية، يقوم قسم الموارد البشرية بدور محوري في تعزيز الروح المعنوية بين الموظفين. يُحفظ تاريخ أعياد الميلاد لجميع الموظفين، بدءًا من الحارس وصولًا إلى المدير العام، ويتم الاحتفال بهذه المناسبات بطريقة مميزة. تُخصص قاعات خاصة للاحتفالات، ويُمنح الموظفون جوائز تقديرية، مما يعكس قيمة كل فرد ودوره في المؤسسة. وعندما يحال الموظف إلى التقاعد، يتم تكريمه بشكل يليق بمسيرته الطويلة، حيث يُودع بدموع الفراق والامتنان، مما يُعزز من شعوره بالانتماء والتقدير.

على النقيض من ذلك، لا زلنا في مجتمعنا نفتقر لهذه المجاملات الجميلة والاعتراف بالأدوار الفردية. نتذكر تجربة مرّ عليها عشرون عامًا، عندما نظّم متقاعدو الأمن الوطني وقفة احتجاجية أمام البرلمان بالرباط تحت إشراف الهيئة الوطنية لحماية المال العام، التي كان يرأسها آنذاك المرحوم ذ محمد طارق السباعي. لقد تعرض هؤلاء المتقاعدون للضرب والإهانة في وضح النهار، على يد زملاء لهم، مما يُظهر الوضعية المأساوية التي يعيشها المتقاعدون في شتى القطاعات. لقد كانت هذه الحادثة صدمة كبيرة، تعكس مدى قلة الاحترام والتقدير الذي يتعرض له هؤلاء الأفراد الذين أفنوا سنوات من حياتهم في خدمة الوطن.

في يوم فاتح أكتوبر، تحمل العديد من المتقاعدين مشاق التنقل من مختلف المدن المغربية إلى الرباط، للتعبير عن مطالبهم ورفع أصواتهم من أجل تحسين أوضاعهم. لقد واجهوا ساعات طويلة من السفر، وتعرضوا لمختلف الظروف المناخية، لكن إصرارهم على الجهر بمطالبهم كان أقوى من كل الصعوبات. كانت تلك اللحظة تجسيدًا للمعاناة التي يعيشونها، حيث أظهروا للعالم أن مطالبهم ليست مجرد شعارات، بل هي حقوق مشروعة لم تُعطَ لهم بعد.

إن ما يعانيه هؤلاء المتقاعدون لا يقتصر على عدم التقدير، بل يمتد ليشمل غياب الدعم المادي والاجتماعي. فالكثير منهم يعيشون تحت ضغط اقتصادي هائل، مما يضعف قدرتهم على مواجهة التحديات اليومية. إن تجمعهم في الرباط لم يكن مجرد حشد للناس، بل كان تعبيرًا عن حاجة ملحة للتحرك والتغيير، أملاً في أن تُسمع أصواتهم وأن تُعطى لهم الحقوق التي يستحقونها.

إن وضعية المتقاعدين في المغرب تبكي، فهم ليسوا فقط ضحايا الإهمال، بل يواجهون أيضًا تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة. فالكثير منهم يعيشون في فقر مدقع، بدون أي دعم أو مساعدة. والأكثر إيلامًا هو أن العديد من الكفاءات التي خدمت البلاد بكل تفانٍ تُحارب بشكل ممنهج، حيث تُغلق الأبواب أمامها في مجالات العمل الجديدة، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في النظام برمته…

عندما يحال العامل في القطاع الوظيفي إلى التقاعد، يتجلى مشهد مؤلم ومؤسف. ورغم أهمية الدور الذي لعبه خلال سنوات عمله، يُفاجأ بأن عطاءاته وتجاربه تُختزل في رقم التأجير. وكأنه لم يكن إنسانًا يحمل اسمًا وتاريخًا ومشاعر، بل تحول إلى مجرد رقم يُستخدم في المعاملات الإدارية. هذا التعامل يُشعر المتقاعد بأنه قد فقد هويته، مما يضيف شعورًا بالاغتراب والعزلة. فمهما كانت رتبته أو مسيرته المهنية، يبقى الرقم هو الوحيد الذي يُمثل وجوده في تلك الوزارة. يتجاهل الجميع السنوات التي قضاها في خدمة البلد، والتحديات التي واجهها، والتضحيات التي قدمها. إن هذه المعاملة تُعتبر إهانة للإنسانية، وتُبرز أهمية إعادة النظر في كيفية تقدير المتقاعدين، واحترامهم كأفراد لهم إنجازاتهم وذكرياتهم، وليس كأرقام في سجلات المؤسسة.

إن التعاطي مع العنصر البشري يجب أن يتحول من مجرد إجراء إداري إلى ثقافة متجذرة. ينبغي على المؤسسات الحكومية والخاصة أن تتبنى مبادرات تعزز من قيم التقدير والاحترام، بدءًا من الاحتفاء بالمناسبات الشخصية، وصولاً إلى تكريم المتقاعدين الذين قدموا الكثير.

في النهاية، يجب علينا أن نتذكر أن المجتمع القوي هو الذي يعرف كيف يقدر أفراده. علينا أن نضع الأسس التي تتيح لكل شخص أن يشعر بأنه مهم، وأن جهوده ليست مجرد أرقام في سجلات المؤسسات، بل هي محطات تاريخية تُبنى عليها مستقبلات الأجيال القادمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى