ظاهرة الغيرة المفرطة بين أبناء الحي: عائق النجاح الشخصي ومؤشر على هشاشة القيم المجتمعية
دابا ماروك
في الأحياء المغربية، وخاصة المدن الصغرى، تعد الغيرة المفرطة بين أبناء الحي أو المدينة ظاهرة متجذرة، تهدد العلاقات الاجتماعية وتخلق حواجز نفسية أمام الأفراد الطامحين لتحقيق النجاح الشخصي. هذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي متوارثة عبر الأجيال، إلا أنها تأخذ أشكالًا أكثر حدة في مجتمعنا المعاصر، حيث أصبح النجاح المهني أو الشخصي يُنظر إليه من منظور المنافسة غير الصحية، بدل أن يكون مصدر إلهام وتشجيع.
الغيرة المفرطة: تعريف وأسباب
تُعرف الغيرة المفرطة بأنها شعور بعدم الرضا أو الاستياء تجاه نجاح أو تفوق الآخرين. وعلى الرغم من أن الغيرة شعور طبيعي يمكن أن ينشأ في أي مجتمع، إلا أن الحاقدين أو من لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم يميلون إلى تحويل هذا الشعور إلى وسيلة للهجوم على الناجحين، خاصة إذا كان الناجحون من نفس الحي أو المدينة.
تتجلى هذه الغيرة المفرطة في صور مختلفة، كالتشكيك في مؤهلات الشخص الناجح أو الحديث عن علاقاته أو محاولة تقليص قيمة إنجازاته. وقد يصل الأمر إلى استنكار ترقية شخص ما بعبارات مثل: “كيف فعل؟”، “إنه يريد أن يطير”، و”يجب عليه أن يجلس معنا هنا”.
التأثيرات النفسية والاجتماعية
إن تأثير الغيرة المفرطة لا يقتصر فقط على الأفراد المستهدفين بها، بل يمتد ليشمل المجتمع بشكل عام. عندما يرى الشخص الناجح أن محيطه الاجتماعي، سواء كان الأسرة أو الحي، لا يعترف بجهوده ولا يقدّر نجاحه، قد يصاب بالإحباط أو العزلة. بل وقد يصبح أكثر حذرًا في علاقاته الاجتماعية، خوفًا من التعرض للانتقادات أو الحسد.
أما بالنسبة للغيرة المفرطة في حد ذاتها، فهي تؤثر سلبًا على الأفراد الذين يعانون منها. يشعر هؤلاء الأشخاص بالنقص، وينجرفون في دوامة من الحسد والكراهية التي قد تعيق قدرتهم على النمو الشخصي. وبدل أن يستفيدوا من نجاح الآخرين كمصدر إلهام، يختارون الحقد والشماتة، مما يجعلهم غير قادرين على تجاوز التحديات وتحقيق أهدافهم.
البيئة المحلية والعادات الاجتماعية
في الأحياء والمدن الصغيرة، تكون العلاقات الاجتماعية أكثر ترابطًا، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض. وهذا القرب الاجتماعي، رغم فوائده، يمكن أن يشكل أرضية خصبة للغيرة المفرطة. فالتفوق المهني أو الشخصي لأحد أفراد الحي أو المدينة قد يُنظر إليه على أنه تهديد أو خروج عن المعايير التقليدية التي تربى عليها المجتمع. يتوقع من الجميع أن يسيروا على نفس النهج، وأي اختلاف يُعتبر نوعًا من “الخيانة” أو “الاستعلاء”.
إحدى العبارات التي كثيرًا ما تُسمع في مثل هذه البيئات هي: “يجب أن يجلس معنا هنا”، مما يعكس توقعات المجتمع بأن يبقى الفرد ناجحًا ضمن إطار محدد، وأي محاولة للتميز أو الخروج عن هذا الإطار تُعتبر تجاوزًا للحدود.
التمييز بين النجاح والظروف
يجب أن نعترف بأن التحديات التي تواجه أبناء الحي أو المدينة تختلف من شخص لآخر. فالبعض قد يجد فرصًا مهنية أو تعليمية أفضل بفضل العمل الجاد، بينما قد يعاني البعض الآخر من صعوبات اقتصادية أو اجتماعية تحد من إمكانياتهم. ولكن هذه الفوارق لا ينبغي أن تثير الغيرة المفرطة، بل يجب أن تُعتبر دافعًا للتعاون والمساندة بين أفراد المجتمع.
بدلاً من الوقوع في فخ المقارنة، يجب على الأفراد في مثل هذه المجتمعات الصغيرة أن يعملوا على تطوير ثقافة تشجع على التحفيز والدعم المتبادل. فكل نجاح فردي هو نجاح للجماعة ككل.
ظاهرة الاستعلاء بين أشباه الناجحين
هناك صنف آخر من الأفراد، رغم أنهم لم يحققوا أدنى شواهد ولم يبلغوا مراحل النجاح الحقيقية، إلا أنهم يعتقدون أنهم قد وصلوا إلى شط الأمان، مما يجعلهم يتكبرون ويتعالون على من حولهم. يتصرف هؤلاء وكأنهم في مصاف الناجحين الحقيقيين، ويعيشون في فقاعة من الغرور والانفصال عن الواقع. تجدهم يتفاخرون بإنجازات بسيطة، مثل الحصول على وظيفة عادية أو نجاحات متوسطة، في حين أنهم يختالون أمام أبناء حيهم، ضاربين عرض الحائط بواقع كثير من أبناء جيرانهم الذين لم يتمكنوا من تحقيق الاستقرار أو النجاح. هؤلاء الأفراد قد يتحولون إلى رموز استعلاء بدلًا من أن يكونوا مصدر إلهام، مما يخلق أجواء من الكره. ومع أن الناجحين الحقيقيين يمكن أن تراهم متواضعين وعاديين، إلا أن هذا النوع من الاستعلاء لا يؤدي إلا إلى زيادة الفجوة بين الأفراد ويعزز من ثقافة المقارنة السلبية.
كيفية مواجهة الغيرة المفرطة
لمواجهة هذه الظاهرة بصفة عامة، يجب على المجتمع أن يعمل على عدة مستويات:
- التعليم والتوعية: يجب تقديم برامج توعية تسلط الضوء على أهمية النجاح الشخصي وأثره الإيجابي على المجتمع ككل. يجب تعزيز مفهوم أن نجاح الفرد يمكن أن يكون مصدر إلهام للآخرين.
- دعم الأفراد الناجحين: بدلاً من مهاجمتهم، يجب على المجتمع أن يحتفي بالأشخاص الذين حققوا إنجازات في حياتهم المهنية. يمكن لهذا الدعم أن يكون عاملًا مشجعًا للآخرين على السعي لتحقيق طموحاتهم.
- تعزيز قيم التعاون بدل التنافس السلبي: على الأسر والمؤسسات الاجتماعية أن تركز على زرع قيم التعاون والمشاركة بدل التنافس الذي يولد الغيرة. يمكن تنظيم فعاليات تشجيعية تبرز قصص النجاح المحلي كنماذج إيجابية يُحتذى بها.
- التطوير الشخصي والنفسي: يجب تشجيع الأفراد على تطوير أنفسهم ومهاراتهم من خلال المشاركة في برامج تأهيلية وتعليمية. هذا سيساعد في تقليل الشعور بالغيرة المفرطة.
الخاتمة
الغيرة المفرطة بين أبناء الحي أو المدينة تعد مشكلة اجتماعية تتطلب العمل على تحسين وعي المجتمع وتغيير نظرته تجاه النجاح الشخصي. بدلاً من أن تكون الغيرة عامل تفرقة وهدم، يجب أن تتحول إلى عامل بناء يدفع الأفراد إلى تحقيق طموحاتهم وتقديم الأفضل لمجتمعهم. تحقيق هذا الهدف يتطلب التزامًا من جميع الأطراف، بدءًا من الأسر، مرورًا بالمدارس ووصولًا إلى المؤسسات الاجتماعية.