مجتمع

الاستبلاد في البلاد مستمر: هم يستبلدوننا ونحن نحتقرهم

محمد صابر

الاستبلاد: أداة قديمة لصناعة الوهم الاجتماعي

الاستبلاد هو ظاهرة تتجلى في محاولات بعض الفئات أو الأفراد في المجتمع لإيهام الآخرين بأنهم أقل ذكاءً أو وعيًا مما هم عليه بالفعل. تقوم هذه الفئات، التي تعتبر نفسها “الأذكى” أو “الأكثر تفوقًا”، بفرض تصورات محددة على العامة لإقناعهم بأنهم غير قادرين على التفكير المستقل أو اتخاذ قرارات صائبة دون تدخل أو توجيه من هؤلاء “الأوصياء”. هذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي جزء من أدوات الهيمنة الاجتماعية التي تتوارثها الفئات المسيطرة عبر التاريخ.

يتخذ الاستبلاد أشكالاً متعددة في شتى قطاعات المجتمع، بدءًا من الخطاب السياسي وصولاً إلى الأنظمة التعليمية ووسائل الإعلام. ففي السياسة، قد نجد أن بعض الحكومات أو النخب تلجأ إلى التضليل المتعمد، والترويج لأفكار سطحية أو شعارات فارغة، بهدف إبقاء الجماهير في حالة من الجهل أو الاعتماد الكامل عليها. يُسهم هذا النهج في خلق وهم بأن الحلول الحقيقية تأتي من القمة، وأن الأفراد العاديين لا يمتلكون القدرة أو الحق في تحدي النظام القائم.

الأخطر في ظاهرة الاستبلاد هو أن تكرار هذه الأساليب والممارسات يجعلها تبدو طبيعية ومقبولة اجتماعيًا، مما يؤدي إلى إضعاف التفكير الحر وزيادة الاعتماد على “النخب” لتوجيه القرارات والتصورات الجماعية. على هذا النحو، لا يُنظر إلى الاستبلاد على أنه مجرد ممارسات منفصلة، بل هو نظام متكامل يهدف إلى تقييد حرية الأفراد وتوجيه تفكيرهم بشكل ممنهج.

إن الوعي بهذه الظاهرة ومقاومتها يتطلب جهداً جماعيًا يعيد التفكير في كيفية استيعابنا للمعلومات، وكيف يمكننا تحدي الأنظمة التي تسعى إلى إفقادنا القدرة على التفكير المستقل. تعزيز التربية على النقد، وتنمية وعي سياسي واجتماعي أعمق، هي خطوات أساسية في مواجهة هذه الآليات الممنهجة للاستبلاد.

من منكم لم يتعرض للاستبلاد؟

السؤال يبدو من البداية وكأنه استفهام استفزازي موجه للجميع، يحمل في طياته تساؤلاً عن مدى شيوع هذا السلوك البليد في جميع مناحي الحياة. فمن منا لم يتعرض يومًا لمحاولة التلاعب بعقله أو مشاعره من قِبل أفراد أو جهات تظن نفسها أذكى وأكثر إدراكًا؟

هم يستبلدوننا ونحن نحتقرهم
في كل مرة يحاولون فيها استبلادنا، سواء عبر قرارات غير منطقية أو شعارات فارغة تُكرر بلا مضمون، ندرك أننا لسنا كما يظنون. نحن نعلم تمامًا أن هذه الفئات التي تتعالى علينا وتظن أنها الأذكى، لا تفعل شيئًا سوى محاولة السيطرة على عقولنا. لكن مع كل خطوة في هذا الاتجاه، ينمو داخلنا شعور بالاحتقار. نحتقرهم لأنهم يظنون أننا لا نفهم، نحتقرهم لأنهم يتعاملون معنا على أننا أدوات أو أرقام في حساباتهم الضيقة. ورغم كل محاولاتهم، يبقى الوعي دائمًا حاضرًا، ومعه هذا الاحتقار الصامت الذي يتزايد يومًا بعد يوم.

تحليل إضافي
تأثير الاستبلاد على المجتمع يعكس عدم احترام لعقول الناس، ويقلل من قدرتهم على التفكير النقدي. لذا، من الضروري أن نكون واعين لهذه المحاولات وأن نتعلم كيفية مقاومة الاستبلاد

البليد الذي يظن نفسه الأذكى

من المفارقات العجيبة أن الفئة التي تمارس الاستبلاد عادة ما تكون أقل ذكاءً أو إدراكًا مما تدعي. هذه الفئة قد تكون عاجزة عن رؤية الأمور بشكل شامل أو عن فهم التعقيدات التي تحيط بها. لكنها تعتمد على تكتيكات بلادة الفكر لتفرض نفسها على الآخرين. البليد يظن أنه الأذكى لأنه يعيش في وهم القوة والسيطرة، متناسيًا أن الذكاء الحقيقي يكمن في قدرة الإنسان على النقد الذاتي، والاستماع للآخرين، والتعلم من الأخطاء.

الابتلاء في جميع القطاعات

عندما نقول “قد ابتليت جميع القطاعات” فإننا نتحدث عن ظاهرة عامة تجتاح المجتمع ككل. لا يوجد قطاع أو مجال بمنأى عن هذه الظاهرة:

مكان العمل: حين يُمارس المدير أو المسؤول استبلادًا على الموظفين عبر اتخاذ قرارات غير منطقية أو تفسيرها بطرق واهية، يكون الهدف غالبًا هو تعزيز سلطة المسؤول وإقصاء الموظفين من عملية اتخاذ القرار. هذه الممارسات تُشعر الموظف بأنه مُستبعد من القرارات التي تؤثر على حياته المهنية. والأسوأ هو عندما يتم الترويج لهذه القرارات على أنها “لمصلحة الجميع”، مما يخلق حالة من الاستسلام والقبول الصامت تحت ضغوط الخوف من فقدان الوظيفة أو التأديب المهني.

  • السياسة: الاستبلاد في السياسة هو أحد أكثر الأشكال وضوحًا، حيث تُستخدم الخطابات والمواقف المبهمة لتضليل الجماهير. السياسي أو المسؤول يُوجه خطابات مُفعمة بالوعود الرنانة أو الإحصائيات المضللة التي تجمل الواقع، في محاولة لإيهام الناس بأن التغيير قادم أو أن الأوضاع تحت السيطرة. يكمن الخطر هنا في الاستهانة بذكاء الجماهير، حيث يعتقد السياسيون أنهم قادرون على السيطرة على الوعي الجمعي باستمرار من خلال أساليب غير شفافة. الاستبلاد السياسي يعتمد بشكل أساسي على تصدير صورة مُبهمة عن المستقبل، وذلك لمنع الجماهير من إدراك الحقيقة أو التفكير في البدائل السياسية. هذه الأساليب قد تؤدي إلى تدهور الثقة بين الشعب والسلطة، مما يفتح المجال لحركات احتجاجية أو قوى جديدة تسعى إلى كسر هذا الاستبداد المعرفي.
  • التعليم: في المؤسسات التعليمية، يتجلى الاستبلاد في المناهج العقيمة التي تركز على التلقين والحفظ بدلاً من تطوير مهارات التفكير النقدي. يتم فرض مناهج دراسية تعزز منطق التبعية والقبول الأعمى للمعلومات دون تمكين الطلبة من فحص الأمور بشكل تحليلي. هذه الأساليب تجعل الأجيال الجديدة غير قادرة على مواجهة المشاكل المجتمعية أو التفكير في حلول مبتكرة. أكثر ما يثير القلق هو أن هذا النمط التعليمي ينتج أجيالًا تخضع للنظام القائم دون مساءلته، مما يعزز الاستبداد المعرفي ويضعف إمكانية التغيير الإيجابي.
  • الإعلام: تلعب وسائل الإعلام دورًا حيويًا في دعم الاستبلاد عندما تُروج لمحتويات سطحية أو منحازة، خاصة في الأخبار والبرامج التي يفترض أن تكون مصدراً للمعلومة والتحليل العميق. استبلاد الجمهور هنا يتم من خلال فرض سرديات محددة تمثل مصالح فئة ضيقة، أو نشر برامج ترفيهية مفرطة تشغل الناس عن القضايا الحيوية. يصبح الإعلام أداة لخلق الوعي المزيف أو تشتيت الانتباه عن مشاكل حقيقية، مما يعزز قبضة الفئات المستبدة ويمنع أي وعي جماهيري ناقد.

القطاع الصحي هو من أكثر المجالات التي يمكن أن يتجلى فيها الاستبلاد بشكل واضح وخطير، نظرًا لحساسية هذا المجال وتأثيره المباشر على حياة الناس وصحتهم. في هذا القطاع، يمكن أن يظهر الاستبلاد في عدة أشكال:

  • استبلاد المرضى: يحدث ذلك عندما يُعامل المرضى على أنهم غير قادرين على فهم حالتهم الصحية أو خيارات العلاج المتاحة لهم. قد يُعطى المرضى معلومات غامضة أو جزئية، حيث يتم إخفاء بعض التفاصيل أو المبالغة في تعقيد الأمور لإجبارهم على قبول قرارات الأطباء دون مناقشة أو استفسار. يتم ذلك أحيانًا لإخفاء ضعف في الخدمات أو لتجنب مناقشة البدائل الطبية المتاحة.
  • الخطاب الصحي العام: في كثير من الأحيان، يُستخدم الإعلام الصحي والخطاب الرسمي لاستبلاد الجماهير من خلال الترويج لصورة إيجابية عن النظام الصحي رغم مشاكله الواضحة. يتم تضخيم إنجازات صغيرة وتقديمها على أنها تحولات جوهرية، في حين يتم تجاهل أزمات حقيقية مثل نقص الكوادر الطبية، ضعف البنية التحتية، أو ارتفاع تكاليف العلاج.
  • الإدارة الصحية: يمكن أن يتجلى الاستبلاد على مستوى إدارة المستشفيات والمراكز الصحية، حيث يتم اتخاذ قرارات تتعارض مع مصلحة المرضى أو العاملين، ويتم تبرير هذه القرارات بمبررات واهية. قد يتم تقييد العاملين في المجال الصحي بقرارات إدارية غير منطقية، ويتم مطالبتهم بالالتزام بها دون طرح أي تساؤلات.
  • الدواء والصيدلة: في قطاع الأدوية، يُمارس الاستبلاد عندما يتم ترويج بعض الأدوية أو العلاجات على أنها “الحل الأمثل” رغم وجود بدائل قد تكون أكثر فعالية أو أقل تكلفة. يتم التلاعب بالمعلومات المتاحة للجمهور حول فعالية الأدوية، مما يُبقيهم في حالة اعتماد دائم على شركات الأدوية الكبرى التي تستغل جهل الناس أو خوفهم.

الاستبلاد في القطاع الصحي ليس مجرد تقليل من ذكاء الناس، بل هو استغلال لموقف ضعفهم في لحظات يكونون فيها بحاجة ماسة إلى المساعدة. التصدي لهذه الظاهرة يتطلب شفافية أكبر، وتعزيز وعي الناس بحقوقهم الصحية، وفتح قنوات التواصل بين المرضى والمختصين، بحيث يكون هناك تبادل حقيقي للمعلومات بدلاً من فرضها من طرف واحد.

مما لا شك فيه أن الاستبلاد لا يقتصر فقط على تضليل الآخرين أو استغلال جهلهم، بل هو عملية مُمنهجة تهدف إلى السيطرة على العقول وتوجيهها نحو القبول السلبي للواقع. هذه الظاهرة تتغلغل في جميع مستويات المجتمع، حيث تصبح المؤسسات المختلفة أدوات لترويض الأفراد وتقويض قدرتهم على التفكير بحرية. ومن هنا، يصبح الوعي والاستقلالية الفكرية السبيل الوحيد لمقاومة هذه الآليات، من خلال تعزيز ثقافة النقد والبحث عن الحقيقة في كل ما يُعرض علينا. الاستبلاد في نهاية المطاف ليس فقط تهديدًا للأفراد، بل هو تهديد للمجتمع ككل، حيث يُفقده قدرته على التقدم والتجديد.

استبلاد المواطن لمواطن

استبلاد المواطن لمواطن هو ظاهرة اجتماعية تتجلى عندما يقوم فرد أو مجموعة في المجتمع بمحاولة إيهام الآخرين بأنهم أقل وعيًا أو قدرة على التفكير النقدي. يحدث ذلك غالبًا في إطار العلاقات اليومية، سواء في مكان العمل أو في السياسة أو في الحياة الاجتماعية. يتم استخدام أساليب متعددة لإخضاع الآخر، مثل إصدار أحكام سطحية، أو تجاهل الآراء، أو فرض معلومات مضللة. هذا السلوك يؤدي إلى خلق جو من الإحباط والامتعاض، حيث يشعر الأفراد بأنهم غير قادرين على التعبير عن آرائهم أو اتخاذ قرارات مستنيرة. استبلاد المواطن لمواطن يمكن أن يؤدي إلى ترسيخ الفجوة بين الأفراد ويقوض جهود بناء مجتمع أكثر تماسكًا وتعاونًا. لمواجهة هذه الظاهرة، يتطلب الأمر تعزيز ثقافة الحوار والتفاهم، وتشجيع التفكير النقدي والاحترام المتبادل بين الأفراد.

الخلاصة

الاستبلاد ظاهرة متجذرة في العديد من المجتمعات، يواجهها الجميع في كل القطاعات. إنها تأتي من طينة بليدة تظن نفسها الأذكى، لكنها في الواقع تفتقر إلى البصيرة الحقيقية. وما يثير الحنق في هذا الأمر هو أن من يتعرض للاستبلاد عادة ما يدرك أنه يُستغل، ولكن تظل آليات الرد والتصدي لهذه الممارسات محدودة.

ولذا،نعود ونقول، إن السؤال الجوهري هو: من منكم سلم من هذا الاستبلاد؟

إنه استفسار يعكس الوعي بالحقيقة، ويضع الجميع أمام مسؤولية التفكير النقدي، ومواجهة محاولات التضليل والجهل المتعمد.

ختام

في نهاية المطاف، الاستبلاد في جميع قطاعاته، سواء في العمل أو السياسة أو التعليم أو الإعلام أو القطاع الصحي، ليس مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل هو انعكاس لفجوة أعمق في الديناميكيات الاجتماعية والثقافية. إن محاولات السيطرة على الوعي الفردي والجماعي تشكل خطرًا على تطور المجتمعات وقدرتها على التقدم. ففي بيئة يهيمن فيها الاستبلاد، يفقد الأفراد قدرتهم على التفكير النقدي واتخاذ القرارات المستقلة، مما يؤدي إلى تكريس حالة من الركود الفكري والسياسي والاجتماعي.

المجتمعات التي تسمح بالاستبلاد بشكل ممنهج تصبح عرضة لتحول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والعامل والمسؤول، والأستاذ والطالب، إلى علاقة وصاية بدلًا من شراكة. هذه الوصاية تعمل على تقييد العقول وتحجيم الابتكار والتفكير الحر، مما يعزز ثقافة الخضوع والقبول بالوضع القائم دون مساءلة. الأفراد الذين يخضعون للاستبلاد على مدار حياتهم، سواء كان ذلك في الجامعة أو في مكان العمل أو في مواجهة الإعلام، يجدون أنفسهم محاصرين بنظام اجتماعي يصعّب عليهم التحرر والتغيير.

لذلك، مواجهة الاستبلاد تتطلب إعادة تشكيل العلاقات المجتمعية على أسس أكثر عدلاً وشفافية، وتأسيس بيئات تمكن الأفراد من تطوير قدراتهم الفكرية، والتعبير عن آرائهم بحرية، والمشاركة الفعالة في صناعة القرار. يجب أن يصبح التعليم أداة لتحرير العقول، وليس لترويضها، وأن يتحول الإعلام إلى وسيلة توعية حقيقية بدلاً من أداة للتلاعب. وفي السياسة، يجب أن تُبنى العلاقة بين القادة والجماهير على الصدق والشفافية، حيث يُحترم ذكاء المواطنين ويُشجعون على المشاركة الفعالة في الحياة العامة.

المقاومة ضد الاستبلاد ليست فقط مسؤولية الأفراد، بل هي مشروع جماعي يتطلب من المؤسسات التعليمية، وسائل الإعلام، المجتمع المدني، وحتى الحكومات تبني سياسات تُمكّن المواطنين من التفكير المستقل، وتوفر لهم الأدوات اللازمة لتحليل المعلومات وانتقادها. فمستقبل أي مجتمع يعتمد على قدرة أفراده على الوعي بذاتهم وبالأنظمة التي تحيط بهم، والسعي إلى تغييرها إذا لزم الأمر. وفي هذا السياق، يُعتبر الاستبلاد عدوًا للتقدم، والتخلص منه هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع أكثر حرية وعدالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى