من هزة البوط إلى ركلة الكرة: حين يتحول الريع إلى أسلوب حياة
دابا ماروك
الاستهلال:
في بلاد يملأها التفاوت الاجتماعي وصرخات البطالة، يبرز مشهد غريب يجعلنا نعيد التفكير في أولوياتنا الجماعية: فنانون يرقصون على أنغام الريع، رياضيون يركلون الكرة نحو امتيازات دائمة، وشيخات تُكافأن بمأذونيات نقل تقديرًا لهزّات “البوط”. كيف أصبح الريع قاعدة، والاعتماد على الذات استثناء؟ ولماذا تحولت المكافآت إلى وسيلة لضمان “الولاء”، بدل أن تكون جسرًا للعدالة الاجتماعية؟ مشاهد يومية تدعونا للتأمل في أزمة القيم قبل أزمة الاقتصاد.
لا يمكن الحديث عن هذه الظاهرة دون أن نتوقف طويلاً عند الطبيعة المركّبة لهذه العقلية التي تجعل بعض الفنانين، الرياضيين، وحتى بعض الشخصيات العامة، يفضلون العيش في ظل اقتصاد الريع والامتيازات على حساب روح الاجتهاد والاعتماد على الذات. وكأن هذا التوجه أصبح قاعدة ثقافية راسخة، تنسج خيوطها بين أوساط متعددة، حيث يصبح “الفابور” ليس فقط مطلبًا، بل “حقًا مكتسبًا” يدافع عنه هؤلاء بشراسة، وكأنهم يقدمون خدمة جليلة تستحق المكافآت والامتيازات مدى الحياة.
شيخاتنا… بين المأذونية وهزّة “البوط”
لنبدأ من المشهد الأكثر غرابة: حصول بعض الشيخات على مأذونيات نقل كـ”جائزة” على ما قدمن من رقص شعبي وهزّ الخصر لخدمة “الشعب”. يبدو أن ثقافة المكافآت والريع قد وصلت إلى حدٍّ يجعل من الأداء الفني الشعبي مبررًا للحصول على امتيازات لا يمكن للعامل البسيط أو الأستاذ أو الطبيب حتى أن يحلم بها. لماذا؟ لأن هذه الثقافة تعيد تشكيل أولويات الدولة بطريقة مثيرة للتأمل، حيث تصبح هزة “البوط” أقرب إلى عمل وطني عظيم يُكافأ عليه صاحبه بالمأذونية، بينما يظل آلاف الكفاءات في طوابير الانتظار أمام مؤسسات الدولة دون أي أمل في الحصول على اعتراف بمجهوداتهم أو مردودهم الحقيقي.
هذا لا يعني التقليل من قيمة الفن أو الرقص الشعبي، فهو جزء من التراث، لكنه يفتح الباب لتساؤلات حقيقية: متى أصبحت “المكافأة” هي الهدف، وليست القيمة الفنية أو الإبداعية؟ ولماذا يتم التعامل مع هذه المجالات بمنطق الريع، في حين أن الفن في أصله يعتمد على الموهبة والعمل والاجتهاد الذاتي؟
الرياضيون… أبطال الملعب أم أمراء الريع؟
قصة الرياضيين مع اقتصاد الريع تزداد غرابة عندما نتأمل حالة أحد الرياضيين القُدامى في المحمدية، الذي حصل رفقة لاعب دولي سابق ينحدر من منطقة الشاوية، في يوم واحد على مبلغ 30 ألف درهم/شهريًا بقرار من جلالة الملك.
الرياضيون، بلا شك، يلعبون دورًا مهمًا في رفع راية البلاد، وهم مصدر فخر للجماهير حين يحققون الإنجازات. لكن هل يعني ذلك أن يتحولوا إلى “مواطنين مميزين” يُمنحون امتيازات مالية كبيرة مدى الحياة، في حين أن هذا البلد يعجّ بأناس أكثر استحقاقًا لهذه المساعدات؟ لماذا لا يتم تشجيع هؤلاء الرياضيين على الاستثمار في مهاراتهم بعد الاعتزال، أو تمكينهم من تطوير أنفسهم مهنياً بدلاً من الاعتماد على الريع؟
والأكثر إثارة هو أن نفس الرياضي الذي حصل على 30 ألف درهم شهريًا ما زال يبكي وينشر قلة الحيلة، وكأن هذا المبلغ الهائل ليس كافيًا لتغطية مصاريفه. لكن القصة لا تنتهي هنا: الرجل يمتلك دخلًا إضافيًا من التقاعد، إلى جانب أجور أبنائه. ومع ذلك، يصرّ على لعب دور “المظلوم”، في تناقض صارخ مع الواقع. هل أصبح التذمر هو الطريقة الوحيدة للضغط من أجل الحصول على المزيد من الامتيازات؟ أم أن الريع قد زرع في عقول هؤلاء الشعور بأن الدولة مدينة لهم بشيء دائم ومستمر، مهما كانت ظروفهم الحقيقية؟
الفنانون… إبداع أم تسوّل راقٍ؟
الفنانون بدورهم ليسوا بعيدين عن هذه الظاهرة. كيف يمكن لفنان، يُفترض أنه رمز للإبداع والاستقلالية، أن يطالب بامتيازات ومساعدات مالية وكأنه عاطل عن العمل؟ كثيرًا ما نسمع عن فنانين يعيشون على حساب الدولة، سواء من خلال مأذونيات نقل أو قطع أراضٍ، وكأنهم يقدمون خدمة “وطنية” تستحق المكافأة. هل هذه الثقافة تعبر عن أزمة اقتصادية فقط؟ أم أنها أزمة في مفهوم الاستحقاق والاعتماد على الذات؟
حتى أن بعض الفنانين قد يبررون ذلك بغياب نظام شامل للرعاية الاجتماعية للفنانين أو الرياضيين بعد التقاعد. لكن هذه الحجة، وإن كانت وجيهة في بعض الحالات، لا تبرر هذا اللهاث وراء الريع والامتيازات بشكل يجعل من الفن نفسه مجرد وسيلة للحصول على مكافآت، لا قيمة إبداعية تُذكر.
ثقافة الريع وأزمة القيم
الحقيقة أن هذه الظاهرة تعكس أزمة أعمق: أزمة قيم وتصورات اجتماعية تجعل من الريع مطلبًا مشروعًا لدى فئات واسعة، سواء كانوا فنانين، رياضيين، أو غيرهم. في مجتمع يعاني من التفاوت الاجتماعي والبطالة وضعف الخدمات الأساسية، يصبح من غير المنطقي أن يحصل أشخاص على امتيازات بمئات الآلاف من الدراهم لمجرد أنهم كانوا في يوم من الأيام “مشاهير” أو “رموزًا”، في حين يكافح الآلاف من الشباب للحصول على فرص عمل بسيطة.
أكثر ما يُثير الحيرة هو كيف يمكن لهذه الثقافة أن تستمر وتتفاقم، دون أن تُواجه بإصلاح جذري. هل نحن أمام مجتمع يُكافئ “الأسماء الكبيرة” فقط، بغض النظر عن إنتاجيتها الحقيقية؟ أم أن النظام نفسه يدعم هذه الظاهرة لإبقاء بعض الفئات في حالة من الولاء والانتماء المصطنع؟