الصحافة المغربية: السطوة والضمير في زمن التغيير
م-ص
عالم الصحافة المغربية اليوم لا يشبه ذلك العالم الذي كان يرتكز على المبادئ النبيلة والتبليغ الأمين للحقائق. مع مرور الزمن، ونتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية، دخل العديد من المستثمرين إلى هذا المجال وهم يتسلحون بعلاقات واسعة ونفوذ يمتد في دوائر القرار. ولكن عوض أن تكون تلك العلاقات وسيلة للارتقاء بجودة الإعلام، أصبحت أداة لتكديس الثروات. إذا استثنينا بعض الحالات التي قد تكون قليلة، فقد خرج غالبية هؤلاء المستثمرين من عالم الصحافة أكثر ثراءً، بينما خرجت الصحافة نفسها أكثر ضعفاً.
الصحافة كوسيلة للإثراء التحكم في وسائل الإعلام وتوجيهها لصالح أجندات اقتصادية أو سياسية أصبح أمرًا واقعًا في المغرب. المستثمرون ومعهم المرتزقة الذين ولجوا هذا المجال بنية تحقيق الأرباح استغلوا تأثيرهم وعلاقاتهم للحصول على امتيازات. ليس فقط عن طريق الإعلانات المدفوعة بشكل غير عادل، بل عبر تمويلات مشبوهة وامتيازات خاصة كالحصول على بقع أرضية من جهات نافذة.
هذه الصفقات تتم تحت غطاء “المديح”، حيث لا يتردد بعض الصحفيين في تلميع صورة “الأثرياء الكرماء” الذين يدفعون بسخاء. هؤلاء الصحفيون أصبحوا أدوات في يد المستثمرين، يسخرون أقلامهم لخدمة مصالح ضيقة مقابل الامتيازات. فهم ينشرون “الأخبار الجيدة” فقط، يغطون الأحداث برؤية وردية، ويحولون الصحافة إلى مجرد بوق للترويج والتلميع.
معاناة الصحفيين المهنيين لكن، في المقابل، هناك شريحة أخرى من الصحفيين الذين يرفضون الانحناء لقانون هذه اللعبة. هؤلاء هم الصحفيون الذين يرون في الكتابة رسالة، وفي الإعلام مهنة تهدف إلى إيصال الحقيقة، مهما كانت مرارتها. هؤلاء يرفضون استغلال الصحافة كوسيلة للإثراء، ويصرون على الدفاع عن نزاهة القلم.
ولكن هذا الإصرار يكلفهم الكثير. المعاناة التي يمرون بها لا تتوقف عند نقص الامتيازات المالية أو غياب الإمكانيات المادية التي يحصل عليها “صحفيو المديح”. بل تتعداها إلى ضغوطات سياسية، وتضييقات مهنية تجعل مسارهم شاقًا ومعقدًا. الصحفيون الذين يلتزمون بأخلاقيات المهنة يُتركون وحيدين في مواجهة واقع قاسٍ، حيث لا مكان للقلم النزيه في سوق إعلامية تعاني من تداخل المصالح وتغليب المكاسب الشخصية على المبادئ المهنية، مما يعوق دور الإعلام في خدمة الحقيقة والمصلحة العامة..
التحديات الأخلاقية والسياسية التحدي الذي يواجه الصحافة المغربية ليس ماليًا فقط، بل أخلاقيًا بالدرجة الأولى. كيف يمكن للصحفي أن يبقى مستقلاً ونزيهًا في ظل هذا الضغط المستمر لتحويله إلى أداة في يد المستثمرين؟ الصحافة ليست سلعة، والحقائق لا يجب أن تباع وتشترى. ومع ذلك، يجد الصحفيون الشرفاء -على قلتهم- أنفسهم تحت ضغط رهيب، يحاولون البقاء على قيد الحياة في مهنة أصبحت ميدانًا للصراع بين المبادئ والمال.
العودة إلى روح الصحافة الحقيقية الصحافة المغربية تحتاج إلى إعادة النظر في أساساتها. المستثمرون قد يحققون الأرباح على المدى القصير، ولكن إذا استمر الوضع على هذا الحال، ستفقد الصحافة قدرتها على التأثير وإيصال الرسالة الحقيقية. المطلوب هو توفير بيئة تحمي استقلالية الصحفي وتضمن له الحماية من التدخلات الخارجية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية.
المسؤولية لا تقع فقط على الصحفيين الشرفاء، بل على المجتمع أيضًا. يجب أن يُدرك المواطنون أن الحصول على إعلام نزيه هو جزء من حقوقهم، وأنه بدون صحافة حرة ومستقلة، لا يمكن أن يتحقق التغيير المنشود. الصحافة ليست فقط وسيلة لنقل الأخبار، بل هي ضمير الأمة وصوت المستضعفين.
في الختام: الصحفيون بين المطرقة والسندان قد يخرج المستثمرون من عالم الصحافة أثرياء، ولكن الصحفيين الحقيقيين يدفعون الثمن. هم الذين يختارون الطريق الصعب، ويصرون على إبقاء أقلامهم بعيدة عن المتاجرة. إنهم الذين يعانون بصمت، يواجهون التحديات بصمود، ويصرون على الحفاظ على جوهر المهنة مهما كانت التكلفة. وبينما يلمع آخرون في عيون المجتمع بأقلام مدفوعة الثمن، يبقى هؤلاء الصحفيون هم الشعلة الحقيقية التي تحترق لتضيء درب الحقيقة.
وبالحديث عن الصحافة في المغرب، نود أن نؤكد أننا لا نهتم ولا نتطرق إلى الأجسام الدخيلة التي تدعي انتماءها لهذا المجال وهي بعيدة تمامًا عن المهنية وأخلاقيات العمل الصحفي. الصحافة هي مهنة تحمل في طياتها مسؤولية كبيرة وتتطلب التزامًا بالمعايير المهنية والضمير الأخلاقي، وليس مجالاً لأي شخص تافه يسعى لاستغلالها لتحقيق مكاسب شخصية أو مالية.
الحديث عن الصحافة ينبغي أن يكون موجهًا نحو تعزيز المهنية، الدقة، والالتزام بالقيم الصحافية الحقيقية، بعيدًا عن أي تشويه يمكن أن تلحقه هذه الأجسام الغريبة التي تُسهم في إضعاف ثقة المجتمع بالإعلام.
هدفنا الدائم هو حماية المهنة، والرفع من شأنها، وتطويرها بما يتماشى مع خدمة المصلحة العامة وضمان التزامها بالمعايير الأخلاقية والمهنية.