إذا ظهر المال، رفع التطوع
م-ص
عند الحديث عن التطوع، يجب أن نفهم أولًا معناه الحقيقي ونؤمن بروحه الصادقة. التطوع هو فعل عطاء حر، ينبع من دافع ذاتي لخدمة المجتمع دون انتظار أي مردود مالي أو شخصي. إنه الالتزام بإحداث فرق إيجابي، حتى وإن كان صغيرًا، بجهد وعطاء خالصين. فالمتطوع يقدّم جزءًا من وقته وخبراته بلا مقابل، إيمانًا منه أن دوره قد يساهم في تحسين حياة الآخرين ورفاه المجتمع ككل.
ولكننا نرى، للأسف، أن بعض المدعين استغلوا مفهوم العمل التطوعي لأغراض شخصية، فنراهم يرقصون هنا وهناك، حيث لم يفلتوا أي مجال، بل يقدمون أنفسهم كمتطوعين ويتخذون من العمل التطوعي واجهة للحصول على المال والدعم. هم ليسوا متطوعين حقيقيين، بل أشباح تطوعية، يتحركون بين منظمات المجتمع وكأنهم يسعون للصالح العام، بينما يحومون حول الموارد والتمويلات لتحقيق مصالحهم الشخصية. كيف يعقل أن يُعتبر هؤلاء متطوعين، وهم أشبه بموظفين أشباح أو حتى رجال تربية لا يقومون بعملهم اليومي الذي يتقاضون عنه راتبًا شهريًا، ثم يدّعون أنهم متطوعون؟ نعم، يحدث هذا في المغرب، حيث يدّعي أشباح وغيرهم أنهم يعملون في المجال التطوعي بينما يستغلون هذه الواجهة لتحقيق مكاسب شخصية لا علاقة لها بالعمل التطوعي الحقيقي.
حقيقة غير مقبولة
كيف يعقل أن يكون المتطوع الحقيقي يقدّم دون انتظار، بينما المدّعي، المتلبس بلباس التطوع، يسعى في الظلام لتحقيق مكاسب مادية؟ هذا التناقض غير مقبول، وهو ليس ظلمًا للجهات الداعمة فحسب، بل هو أيضًا خيانة لروح التطوع التي تعتمد على الإيثار والعمل المجاني.
هؤلاء المدّعون يتعاملون مع التطوع كوسيلة تجارية، وليس كقيمة اجتماعية أو أخلاقية، وهو ما يترك تأثيرًا سلبيًا ويضعف ثقة الناس في العمل التطوعي. فعندما يصبح الشبح المتطوع صورة شائعة، تتلاشى صورة المتطوع الحقيقي، وتصبح المسألة مشوشة بين ما هو تطوع حقيقي وما هو مصلحة شخصية متنكرة.
دعوة لتعزيز الشفافية واستعادة المعنى
من الضروري أن تعود روح التطوع إلى معناها الأصيل، وألا تُترك الفرصة لهؤلاء المدّعين لإفراغه من محتواه. هذا يتطلب أن تتم مراقبة المشاريع التطوعية ومحاسبة المسؤولين عنها، وتعزيز الشفافية بين الجهات الداعمة والجمهور.
إذا ظهر الدعم، رفع التطوع، ابتكرنا هذه المقولة لأنها تعكس واقعًا معقدًا يظهر عند تلاقي المال والدوافع التطوعية، حيث يتحول الطموح النبيل إلى أرض خصبة للتحديات الأخلاقية. صحيح أننا لا نعمم، فثمة أشخاص صادقون يدفعهم الإيمان بخدمة المجتمع، غير أن نسبة هؤلاء الشرفاء تبقى ضعيفة مقارنة بالأغلبية التي قد تتأثر بإغراءات المال.
- عندما يُغري المال وتتحوّل النوايا
- التطوع بالأساس هو فعل عطاء مجانيّ يهدف لخدمة المجتمع أو تحقيق فائدة تتجاوز الفرد نفسه، أما الدعم المالي فهو شريان قد يحيي المشاريع ويمنحها القدرة على النمو والاستدامة. لكن مع ظهور المال، غالبًا ما تتبدّل النوايا، ويتحوّل التطوع من رغبة خالصة إلى باب للمنفعة المادية.
- حيث نجد أن الدعم يغيّر من طبيعة التطوع، فيظهر التسابق على الاستفادة من الأموال الممنوحة بدلًا من التركيز على تحقيق هدف سامٍ. ومع انحراف الأولويات، يُرفع التطوع، وتغيب تلك القيم الصافية التي دفعت البعض للبدء.
- ظاهرة اختلاق المشاريع التطوعية لأهداف ربحية
- قد يلجأ البعض لتقديم مشاريع يدّعون أنها تطوعية، وغايتها خدمة المجتمع. ولكن الحقيقة التي تلوح خلف الشعارات هي أن الدافع الحقيقي ليس عطاءً، وإنما البحث عن التمويل.
- هذه المشاريع عادةً ما تُصاغ بعناية لتبدو جذابة للجهات الداعمة، سواء كانت هيئات محلية أو دولية، فتُبرز مشكلات تهم المجتمع وتضخم التحديات لتثير تعاطف المانحين. في حين يتم توجيه الجزء الأكبر من الدعم إلى أوجه نفع خاصة تتعارض مع مفهوم التطوع.
- تأثير الدعم المالي على مصداقية العمل التطوعي
- إدخال الدعم المالي في مجال التطوع ألقى بظلال من الشك والريبة على العمل التطوعي عمومًا، فبدلًا من أن يُنظر إلى المبادرات بعين الاحترام، بات الكثيرون يتساءلون عن الدوافع الخفية وراء كل مشروع.
- هذه الشكوك ليست وليدة الصدفة، بل جاءت نتيجة لتصرفات فئة من الأفراد الذين سعوا لتضخيم أرباحهم، واختلقوا مصاريف وهمية، واستخدموا موارد العمل التطوعي لتلبية مصالحهم الشخصية.
- الاستثناءات والنسبة الضعيفة للشرفاء
- رغم هذا الواقع المعقد، لا يمكن القول إن الجميع ينخرط في استغلال المال، فهناك قلة شريفة تظل ثابتة على المبدأ وتعمل بصدق. هذه الفئة تسعى فعليًا لتحقيق تأثير إيجابي، وترى في العمل التطوعي رسالة ومسؤولية أخلاقية.
- غير أن هذه الفئة، بضعف نسبتها، تواجه تحديات كبيرة، إذ تعمل في بيئة مشبعة بأجواء الشك وتواجه صعوبات في إقناع الجهات الداعمة والجمهور بصدق نواياها. في ظل هذه المعطيات، يصبح دور الشرفاء أصعب ويتطلب صبرًا ومصداقية استثنائية.
- آليات لتعزيز الشفافية وتجنب الاستغلال
- من المهم أن تعمل الجهات المانحة على تطبيق معايير صارمة لمراقبة المشاريع التي تدعمها، بحيث تتأكد من توجيه التمويل نحو الأهداف المعلنة. وقد يشمل ذلك زيارات ميدانية وتقييمات دورية وتقارير مفصلة حول كيفية إنفاق الأموال.
- كما ينبغي للمانحين أن يشجعوا المشاريع على تبني نظم محاسبة شفافة يمكن من خلالها الاطلاع على تفاصيل الإنفاق وأهدافه، ما يقلل من احتمال التلاعب ويعزز ثقة الجمهور والجهات المعنية.
الخلاصة
إذا ظهر الدعم، رفع التطوع، عبارة تلخص واقعًا حيث أصبح من السهل أن يطغى المال على النوايا الصافية، مما يُضعف معنى العمل التطوعي ويترك قلة شريفة تكافح للحفاظ على هذا المعنى. ومع وجود نسبة قليلة من الشرفاء، تظل الحاجة ملحة لتعزيز الثقة والمساءلة، حتى يظل التطوع وسيلة حقيقية لخدمة المجتمع وليس بوابة لمكاسب شخصية.