![](https://i0.wp.com/dabamaroc.com/wp-content/uploads/2024/12/%D8%A8%D9%88%D9%84-%D9%81%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B1%D9%8A.jpg?fit=1638%2C2394&ssl=1)
دابا ماروك
الإنسان بين العبث والوعي
في معترك الحياة الإنسانية، تظل صراعاتنا الداخلية والخارجية قائمة، سواء كانت في نقاشات فكرية أو حروب مدمرة. ومع ذلك، قليلون من يتوقفون عند سؤال جوهري: “لمن نختلف؟ ولماذا نقاتل؟”
هنا تتجلى عبثية تلك المواقف: نقاشات تهلك صداقات دون أن تُغير من مجرى الأمور شيئًا، وحروب يُساق إليها البشر كقطع الشطرنج، تُحركهم أصابع لا يرونها ولا يفهمونها، بينما هم يدفعون ثمن الصراع دمًا وحياة.
هكذا يخاطبنا بول فاليري في مقولته بلغة هادئة عميقة تُجسد فلسفة اللاجدوى والوعي بعبثية صراع الإنسان.
قراءة فلسفية للمقولة:
1. “لا تخسر أحدًا في نقاش سياسي”
هذه العبارة تحمل في طياتها بُعدين:
- البعد الاجتماعي: في مجتمع قائم على الاختلافات الفكرية والسياسية، يُمكن أن تنشب خلافات تُهدد أواصر الصداقة والعلاقات. فاليري يحذرنا من أن النقاش السياسي، في كثير من الأحيان، مجرد لعبة لا طائل منها؛ لأن الأفراد لا يتحكمون فعليًا في القرار النهائي.
- المغزى هنا: لا تجعل السياسة تُفرّق بينك وبين من تحب؛ فالروابط الإنسانية أثمن من أي خلاف فكري.
- البعد النفسي: عندما نُجادل بحماس لنُثبت صحة وجهة نظرنا، ننسى أننا قد ندفع ثمن هذا الانتصار بفقدان شخص قريب، وهو ثمن لا يُبرر النتائج.
- رسالة فاليري: جدالاتنا مجرد إشباع ذاتي لأوهام الانتصار الفكري، لكنها قد تترك في نفوس الآخرين أثرًا لا يُمحى.
2. “الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض”
الحرب، كما يراها فاليري، ليست مجرد معركة بين جيوش، بل مسرحية عبثية يُفرض على الناس فيها دور القاتل والمقتول.
- الضحايا: هم الجنود البسطاء الذين لا يحملون أية ضغينة شخصية تجاه خصومهم، لكنهم يقتلونهم بأوامر عليا.
- المستفيدون الحقيقيون: هم قادة الحروب، والساسة، والمُتحكمون في المشهد الذين “يعرف بعضهم البعض”، ويحققون مكاسب مادية وسياسية هائلة.
فاليري هنا ينقل صورة ساخرة ومأساوية للحرب:
- القاتل والمقتول: كلاهما ضحية.
- الوعي بالعبث: إذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة، سيطرح سؤالًا مهمًا: لماذا أقاتل؟ ولأجل من؟
التعمق الفكري: صدى العبثية والوعي بالواقع
مقولات فاليري تندرج ضمن تيار فكري ظهر بقوة بعد الحروب الكبرى، وخصوصًا مع صعود الفلسفة الوجودية والعبثية.
- الحرب والنقاش السياسي، في نظره، هما وجهان لعملة واحدة: صراع بلا جدوى.
- سواء في الساحات الفكرية أو ميادين القتال، الإنسان غارق في العبث، لأن الصراع ليس في مصلحته، بل في مصلحة من يُحركه.
فاليري يُشبه في هذه الرؤية كبار المفكرين مثل ألبير كامو الذي رأى أن الحياة بذاتها عبثية، وأن الحل يكمن في الوعي بهذا العبث ومحاولة تجاوزه بالتركيز على القيم الإنسانية.
خلاصة التعمق: حكمة المقولة في سياقنا الحديث
- في زمن التباعد الاجتماعي والسياسي: أصبح الاختلاف يُهدد العلاقات أكثر من أي وقت مضى. تُذكّرنا المقولة أن التمسك بالإنسانية أهم من التمسك بالرأي.
- في زمن النزاعات والحروب: ما زال الإنسان يُستخدم كأداة لتحقيق مصالح كبرى، دون أن يدرك دوره في هذه اللعبة.
رسالة فاليري الخالدة:
“قبل أن تُجادل أو تُقاتل، اسأل نفسك: لماذا؟ ولأجل من؟”
فالوعي بالعبث هو أول خطوة نحو التحرر منه.
هذا التعمق ينقل المقولة من مجرد كلمات إلى حكمة خالدة تعيدنا إلى الإنسان ومكانته في هذا العالم المليء بالصراعات.