
دابا ماروك
مدخل: مغاربة العالم… أبطال غير متوجين
يطرح هذا الموضوع مفارقة اقتصادية واجتماعية متجذرة في الواقع المغربي منذ عقود، حيث يسعى مغاربة المهجر بكل جهد لجلب العملة الصعبة وإنعاش الاقتصاد الوطني، في حين يعمد آخرون إلى تهريب الثروات خارج البلاد. هذه الظاهرة ليست مجرد أرقام جافة في تقارير البنك المركزي، بل تعكس تداخلات معقدة بين الاقتصاد والثقافة والسياسة، وتجسد صراعًا دائمًا بين البناء والاستنزاف، وبين التفاني في خدمة الوطن والانتهازية التي تستنزفه.
لا يمكن الحديث عن الاقتصاد المغربي دون استحضار مغاربة المهجر، هؤلاء الجنود غير النظاميين الذين يكدحون في المصانع الأوروبية، وأوراش البناء في الخليج، والمختبرات العلمية في أمريكا، يجمعون يورو على يورو، ودولارًا على دولار، ليرسلوا تحويلاتهم إلى الوطن الأم. من بائع الصحف في باريس، إلى الطبيب الجراح في برلين، ومن العاملة الموسمية في حقول الفراولة الإسبانية إلى مهندس البرمجيات في سيليكون فالي، الجميع يساهم في ضخّ الأوكسجين في شرايين الاقتصاد الوطني.
هؤلاء ليسوا مجرد أرقام في بيانات التحويلات المالية، بل هم حكايات فردية مشحونة بالعواطف والتضحيات، إذ نجد من بينهم من يقتطع من قوته اليومي، ويتحمل مذلة الغربة، حتى يستطيع شراء قطعة أرضية في نواحي الدار البيضاء أو مراكش، ليضمن لنفسه ولأبنائه مستقبلًا أقل اضطرابًا. ومع ذلك، كثيرون منهم يواجهون صدمات الواقع حين يعودون إلى المغرب، حيث تضيع تحويشة العمر في بيروقراطية العقار، أو في مشاريع وهمية، أو تُبتلع في دوامة الفساد والمحسوبية.
الوجه الآخر للعملة: تهريب الثروات إلى الخارج
لكن بينما يعاني هؤلاء في تأمين مستقبلهم، هناك فئة أخرى تمارس لعبة مختلفة تمامًا: تهريب الثروات الوطنية. لا نتحدث هنا عن بضع أوراق نقدية محشوة في الجوارب داخل حقيبة سفر، بل عن عمليات مدروسة، يتم خلالها تحويل الأموال إلى حسابات سويسرية، أو شراء عقارات في باريس ودبي ولندن، أو الاستثمار في مشاريع خارجية بأموال كان من المفترض أن تُستخدم لتنمية المغرب.
الفارق بين الفئتين شاسع، ليس فقط في الأرقام، بل في المنطلقات الأخلاقية. مغاربة المهجر يجلبون أموالهم إلى الداخل بدافع الحنين والمسؤولية، أما مهربو الثروات فيرون في الوطن مجرد بقرة حلوب، يحلبونها حتى آخر قطرة، ثم يبحثون عن ملاذ آمن حيث لا يسألهم أحد: “من أين لك هذا؟”
من يهرب الأموال؟ ولماذا؟
إذا تعمقنا في هوية مهربي الثروات، سنجد أن الأمر لا يقتصر على شخصيات معزولة، بل هو “نظام موازٍ” له قواعده وأدواته. ويمكن تصنيف الفاعلين فيه إلى ثلاث فئات رئيسية:
- رجال أعمال مشبوهون: هؤلاء يجمعون الأموال عبر صفقات مشبوهة، وتهرب الأموال تحت غطاء استثمارات خارجية أو مشاريع مبهمة.
- مسؤولون سابقون وحاليون: حين يقترب موعد التقاعد، يبدأ البعض في تأمين خروج مريح عبر تهريب الأموال إلى الخارج، تحسبًا لأي مساءلة مستقبلية.
- شركات الواجهة: كيانات يتم إنشاؤها فقط من أجل تهريب الأموال تحت غطاء الاستيراد والتصدير، أو الخدمات المالية العابرة للحدود.
القوانين في مواجهة الظاهرة… حرب غير متكافئة؟
في مواجهة هذا النزيف المالي، تبرز أسئلة عديدة: ماذا تفعل الدولة للحد من الظاهرة؟ هل القوانين كافية؟ هل هناك إرادة سياسية حقيقية؟
القوانين موجودة على الورق، لكن التطبيق هو الإشكال الأكبر. إذ نجد أن مساطر تتبع الأموال المهربة معقدة، وتحتاج إلى إرادة سياسية قوية لمحاسبة المتهربين، وهو أمر لا يحدث دائمًا.
على الجانب الآخر، هناك من يقول إن بعض الأثرياء يهربون أموالهم خوفًا من “عدم استقرار القوانين”، حيث يشعر البعض بعدم الأمان القانوني والضريبي، فيفضلون تأمين أموالهم في الخارج بدل المخاطرة بها محليًا.
“ألف يد ويد” مجددًا… هل تغير شيء؟
حين نستحضر فيلم “ألف يد ويد” لسهيل بنبركة، نجد أن الواقع لم يتغير كثيرًا. اليد التي تغزل السجادة ليست هي اليد التي تطأها الأحذية اللامعة، وهذا تمامًا ما يحدث مع مغاربة العالم. فهم يشيدون بالعملة الصعبة عمارات الوطن، لكن من يسكنها فعلًا ليسوا بالضرورة من تعبوا في بنائها.
خاتمة: بين الوطنية والانتهازية
تبقى معادلة مغاربة العالم والعملة الصعبة مقابل مهربي الثروات إلى الخارج واحدة من أكثر المفارقات المزعجة في الاقتصاد المغربي. بينما يرفع الأولون شعار “العودة إلى الجذور”، يرفع الآخرون شعار “الهروب إلى الأمام”. وبينهما، يبقى المغرب ساحة معركة دائمة بين من يريد بناءه ومن يريد بيعه قطعة قطعة.
السؤال الذي يفرض نفسه في النهاية: هل سيتحول مغاربة المهجر إلى مجرد بقرة حلوب دون حقوق، بينما يظل المهربون فوق المساءلة؟ أم أن هناك أملًا في أن تستفيق الدولة من غفوتها وتعيد رسم قواعد اللعبة؟