
مغرب التوريث: من السياسة إلى الحشيش.. إلا الفقر فلا وريث له!
دابا ماروك
في المغرب، تنطبق نظرية الوراثة على المهن كما تنطبق على لون العيون وملامح الوجه، غير أن الجينات هنا ليست سوى حسابات بنكية ممتلئة، وشبكة علاقات متينة، وكرسي دافئ ينتظر الوريث الذي لا يحتاج سوى إلى لقب العائلة ليصير “سيدًا” بين عشية وضحاها. نحن بلد يؤمن بأن “الدم لا يصير ماء”، ولذلك تجد أن بعض المهن تتناقل كما تتناقل العائلات المغربية وصفة “السفة المدفونة بالدجاج” جيلاً بعد جيل، بينما مهن أخرى لا يمكن أن تجد لها استمرارية، وكأن لعنة الفقر تجعلها عصية على الوراثة!
خذ مثلاً السياسة: من رحم البرلماني يولد برلماني آخر، ومن صلب الوزير ينشق وزير جديد، والكرسي في قاعة البرلمان يصدر صوت “صاااحب!” بمجرد أن يجلس عليه الابن كما كان ينادي والده من قبله. الانتخابات عندنا ليست سوى لمّة عائلية، حيث يتقاسم الأب والابن وابن العم والخال مقاعد البرلمان كما يتقاسمون الموائد الرمضانية. حتى أنك قد تجد قرى، حيث رئيس الجماعة هو ابن رئيس الجماعة السابق، الذي هو صهر رئيس الجماعة الذي سبقه، وعندما تنظر إلى دفتر الحالة المدنية لهذه القرى، قد تكتشف أن العائلة الحاكمة هناك لا تحمل اسمًا، بل تحمل رمزًا انتخابيًا!
أما عن رجال الأعمال، فحدث ولا حرج! الثري لا يمكن أن ينجب سوى ثري، والشركات تنتقل من الأب إلى الابن وكأنها ساعة جيب قديمة. ابن مالك المصانع لن يأتي يومًا ليقول لك إنه يريد أن يصبح طبيبًا، أو مهندسًا، أو حتى مغني راب، بل سيكمل طريق والده في الضغط على العمال ودفعهم إلى الإضراب كل أربع سنوات بدل زيادة درهم واحد في الأجور.
بل حتى أباطرة المخدرات لديهم حس “التوريث”، بل يتفوقون في ذلك على أغلب العائلات السياسية. هنا الوراثة تتم بطريقة سلسة، فمن كان يملك “غابة للحشيش” لن يسمح بأن يخرج وريثه إلى الحياة ليبيع السجائر بالتقسيط، لا وألف لا! الوالد المؤسس للمملكة “الخيالية” يحرص على أن يتخرج الابن من جامعة “التهريب العالي”، وبعدها يبدأ مشواره كبرلماني، لأن المال لا يشتري الأصوات فقط، بل يشتري الحصانة أيضًا!
لكن بالمقابل، هناك مهن محرومة من هذه النعمة الجينية. الإسكافي لا ينجب إسكافيًا، لأن المجتمع جعل هذه المهنة “رمزًا للفشل”، والابن الذي نشأ بين الجلود والأحذية المهترئة سيُفرض عليه حلم أن يصبح شيئًا آخر، حتى لو لم يكن مقتنعًا بذلك. نفس الشيء ينطبق على “الموظف البسيط”، فمن النادر أن تجد ابن كاتب إداري يريد أن يصبح كاتبًا إداريًا هو الآخر، لأن المكتب نفسه يورث الاكتئاب قبل أن يورث الوظيفة.
أما إمام المسجد، فقصته قصة! المجتمع قد يقبل أن يكون للسياسي ابن سياسي، وللبرلماني ابن برلماني، ولصاحب الخمّارة ابن صاحب خمّارة، لكن إمام المسجد؟ لا، هنا يتغير المزاج العام فجأة! لا أحد يريد أن “يحكر” ابنه في مهنة تحتاج إلى الكثير من الصبر وقليل من الحوافز المادية، لهذا قد تجد ابن الإمام يعمل موظفًا في جماعة قروية، أو ربما مهاجرًا في الديار الأوروبية، لكنه نادرًا ما يقرر أن يسير على خطى والده، لأن “الخلافة” هنا ليست مغرية بما يكفي!
أما في صفوف الأمن، فالأمر مختلف قليلاً، هنا لا يُورّث المنصب بالكامل، لكن تسهيلات صغيرة تجعل “التجنيد العائلي” أمرًا مقبولًا. الشرطي قد لا يورث شارته لأحد أبنائه، لكنه يستطيع أن يفتح له باب التوظيف بشكل أسهل، صحيح أن “الدائرة الأمنية” لا تُشيَّد للعائلة، لكن فردًا جديدًا منها قد يجد طريقه إليها دون عناء طويل، لأن الأمن وظيفة حساسة، والدولة لا تثق إلا في من هم “مضمونون” من ناحية الولاء والانضباط!
وهكذا تستمر الحياة في المغرب، حيث المهن توزع وفق منطق غريب: من ولد في قصر سيبقى في القصر، ومن ولد في حي شعبي سيُجبر على الحلم بمغادرته، ولو بطرق “غير قانونية”! كل شيء هنا يسير وفق “دستور غير مكتوب”، حيث التوريث يصبح قاعدة حين يتعلق الأمر بالامتيازات، لكنه يختفي تمامًا حين تكون المهنة متعبة وغير مغرية. وربما لهذا السبب، لا تجد أبناء الفقراء يتوارثون الفقر فقط، بل يتوارثون معه الحسرة على واقع لن يتغير إلا عندما يصبح الإسكافي وزيرًا، وابن البرلماني “مصلح أحذية”!