فن وثقافة

مستفِزون عن وعي

حين يكون قول الحقيقة مزعجا

ترجمة: سعيد طلحا

أستاذ وشاعر مغربي مقيم بفرنسا

في عالم قائم على أعراف شبه تسلّطية، تخلّف الحقيقة العارية ، في أغلب الأحوال، مفعولا يشبه القنبلة٠غير أن سقراط أو روسو أو دوستويفسكي لم يكونوا يترددون في توظيفها لجعل أفكارهم مسموعة٠
صحيح أن الحقيقة تجعلك حرا، لكنّها أيضا ، تحتوي على قدر كبير من الإزعاج ، خاصة تلك الحقائق التي تُجبر على كشف ما يفضّل البعض أن يبقى طيّ الكتمان٠ إن هذا النوع من الحقائق يهزّو يقلقل، بل ويفضح أيضاً ٠ولقد ذهب بعضهم إلى درجة القول أن حقيقة لا مبالية، حقيقة لا تبعث الحركة في الأشياء، أَوْ حقيقة تُعَزِّزُ من تحيزاتها وعاداتها ، تستحق بالكاد أن تُسمّى”حقيقة”٠ و باختصار، فكل حقيقة جديرة بهذا الاسم، لابدّ لها، على الاقلّ ، أن تكون مستفزة.
في طليعة “المستفزّين” من أجل الحقيقة، المارد سقراط. إن مفارقته تعود أولا إلى طريقته غير المباشرة في الإستفزاز، حتى دون أن يبدو عليه أنه يفعل ذلك. لقد كانت سخريته المعروفة ترتكز على التظاهر بالجهل من إجل جعل محاوره في موضع يشعره بالثقة. هكذا، كان يصل بيسر يقارب اللامبالاة الكاملة إلى وضْع مدّعي المعرفة من السوفسائيين في تناقض مع أنفسهم٠ هذا الأسلوب كان يؤدي في النهاية إلى إثارة رودود أفعال غاضبة، إلى درجة أن بعضهم كان يغادر المناقشة بتذمّر شديد. لقد شبّه مينو سقراط، وهو سفسطائي، بسمكة الطوربيد التي تخَدّر كل من يلمسها٠ لقد كان سقراط يمثل في نهاية المطاف ” الكلام الصريح” ، أَوْ ” قول الحقيقة” الباريسيا parrêsia/ ذائعة الصيت ٠
هذه الأخيرة ، كانت في الأصل، فضيلة سياسية تسمح لمواطنٍ أن يتكلم بصراحة إلى أمثاله من أجل الحصول على دعمهم في المحكمة أَوْ الجمعية. غير أنّ سقراط يزحزح الباريسيا عن موقعها، ويدفع بها إلى دائرة المحادثة الخاصة ٠ لقد كان مارده ، أي صوته الداخلي، يدعوه إلى أن يدير ظهره إلى السياسة ، إِذْ كان يتوجه إلى مواطنيه على انفراد من أجل أن يساعدهم على الوعي بضرورة الاعتناء بأنفسهم. هكذا كان يفضي الاستفزاز إلى التحوّل.
بعد سقراط ، كان الكلبيون هم ورِيثِيهِ الأكثر راديكالية ، وفي مقدمتهم ديوجين الشهير. لقد لبس معه الكلام الصريح رداء الوقاحة، وتحوّل إلى نموذج في السلوك وفي الكينونة : “إن الكلام الصريح – يقول ديوجين الكلبي- هو الشيء الأكثر أهمية على الإطلاق “٠
عيوبنا الخفية تحت مجهر الأخلاقيين
في أوقات أخرى، وُجد محرضون آخرون من أجل الحقيقة: الأخلاقيون الفرنسيون في القرن السابع عشر٠ لقد سلّط لا روشفوكولد الضوء، ومعه لافونتين أو لا برويير ، على الينابيع الخفية في قلب الإنسان٠ ففحص لا روشفوكولد تحولات الاعتزاز بالذات، ليصل إلى أن فضائلنا الظاهرة غالبا ما تكون عيوبا خفيّة٠ ومن الصعب أن تعثر على حكمة أكثر قسوة من الحكمة ٩٣ :” : يحبُّ كبار السن أن يقدّموا مبادئ جيدة ، حتى يعزّوا أنفسهم، لأنهم لم يعودوا في حالة تسمح لهم بتقديم نماذج سيئة ”
في أعقاب لا روشكفوكولد ، ولكن بطريقة أكثر منهجية، يبيّن جان جاك روسو، في أصل التفاوت، كيف يتقهقر الإعتزاز بالذات إلى حب أناني للذات، فبقدر ما يتحضَّر إنسان الطبيعة ، يتعلم خداع الآخرين ، وبالأخص خداع نفسه٠ في الرسالة السادسة من ” رسائل أخلاقية” إلى سوفي دوديتو ، يشير روسو إلى غرور حب الذات، فيقول : ” حينما أرى كُلَّ واحد فينا مشغولاً دائما بالرأي العام [٠٠٠]، أظن نفسي أرى حشرة صغيرة تشكل من مادتها شبكة كبيرة، من خلالها فقط، تبدو كأنها حيّة ،في الوقت الذي نعتقد أنها قد تكون في جحرها ميتة. غرور الانسان يشبه شبكة العنكبوت هاته التي يسحبها على كل ما يحيط به” . ومن هنا محاولته الذي لا تقل استفزازا في العودة إلى وعي واضح بالذات. لقد استمد روسو كاتبُ السيرة ، حقائق لا تقل إثارة، خاصة وأنه لم يتردد في إدانة الحيل التي تمكّن الأكثر دهاء من الإثراء على حساب جهد الكثيرين.
يا للفضيحة!!
لذلك، لم يُغفر لروسو نشره هذه الحقائق، وكان يُفضَّل، في زمانه، لو أنها كانت صادرة عن “مجنون”٠

المطالبة ببقعة من الظل
ويبقى رسم الذات، بدون تفخيم ولا مساحيق، من أكثر المهام محفوفية بالخطر، سِيَما إذا تَمّ تنفيذها بدون دعامة خارجية٠ لكن الأمر، لم يكن كذلك مع سانت أوغسطين٠ ففي الإعترافات ، يعود اللاهوتي المعلّم إلى شبابه الطافح بالأخطاء والذنوب، ليس ليكون قدوة (حتى ولو سيّئة)، وإنّما ليُثْنيَ، أمام المؤمنين، على نعمة اللطف الإلهي التي تجلّت فيه، وذلك على أمل إيقاظ نداء الرب فيهم٠
لكنْ ، أن تذهب مخاطرا لاكتشاف الظل ذاته، على غرار ما فعل الراوي المثير في مذكرات قبو، لفيودور دوستويفسكي ( كان مشروع العنوان بدايةً هو “اعترافات”)، فذلك شيء آخر، مختلف تماما. كان هذا النص الغريب والأساسي في آن، يردّ بطريقة هجوميّة على مثاليات تشيرنيشيفسكي، الذي تصوّرَ في روايته ما العمل؟ ثورة اشتراكية يفتح فيها الفرد المتجدد ب” بأنانية جمعية” الطريق إلى مجتمع مشرق٠ الرواي يرفض هذا المنظور في العيش داخل ” قصر من الكريستال”، في مجتمع شفاف، يعيش فيه الناس كخلايا النمل. إنه يطالب بجانبه المعتم ، وبحقه في النزوة: ” لنفرض أنّني لا أملك، بدلا من قصر الكريستال، إلّا خمّ دجاج، ولنفرض أنّ السّماء أمطرت، فما المهمّ في ذلك إذا كان الإنسان لا يحيا إلّا في سبيل أن لا تبلّله مياه الأمطار!”
فهو كفصامي، يصرّ على رفضه للتطور المزعوم باسم حقوق أنانيته، ويهرب غرزيا من كل سعادة ” مفتاحها باليد”. ومستفزاً إلى أقصى حد، يهاجم العقلانية المعاصرة التي تقطع الناس عن الحياة وعن تناقضاتها ” إن الإنسان ، إلى هذه الدرجة، هو عبدٌ لأنساقه و استدلالاته التجريدية، حتى أنه مستعد لقلب الحقائق عن عمد، وإغماض عينيه وصمّ أذنيه عن سابق إصرار لتبرير منطقه [٠٠٠] انظروا حولكم ! سترون ولاشك ودياناً من الدماء تجري في حبور عظيم، وكأنما هي وديان من الشامبانيا”
ليس غريبا بعد ذلك إذن ، أن يكون دوستويفسكي ، هو الشخص الوحيد الذي علم نيتشه ” شيئا في علم النفس”.
جان مونتنو

هوامش:
١: أفول الاصنام ، نيتشه

مجلّة لير الأدبية الفرنسية العدد الأخير: فبراير٢٠٢٢ ( صفحة ٤٢/٤٣)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى