النقابات بين النضال الحقيقي والمصالح الشخصية: عندما يصبح الدفاع عن العمال تجارة رابحة!
دابا ماروك
العمل النقابي في العديد من دول العالم يعد من الأدوات القوية التي تضمن للعمال حقوقهم وتصون كرامتهم. هو السلاح الذي يخوض به العمال معركة طويلة الأمد ضد جشع أرباب العمل واستغلالهم المفرط. في أوقات كثيرة، نجد النقابات تحقق مكاسب حقيقية، سواء عبر تحسين الأجور أو تقليص ساعات العمل أو حتى الحصول على ظروف صحية أفضل. لكن، هل هذا ما يحدث في بلادنا؟ أم أن النقابات تحولت إلى ساحة صراع لا لشيء سوى لتوسيع النفوذ وحصاد المكاسب الشخصية؟
في عالمنا العربي، بل خصوصًا في “الدول المتخلفة” (كما يحب البعض تسميتها، وهذه التسمية ليس فيها إجحاف بل أصدق تعبير للوضع المأساوي)، أصبح العمل النقابي أشبه بمسرحية هزلية. النقابات التي من المفترض أن تكون درعًا يحمي حقوق العمال، تحولت إلى آلية للمتاجرة بالأزمات، وفي بعض الحالات إلى أداة لتكديس الثروات والارتقاء الاجتماعي على حساب دماء الكادحين.
لنأخذ مثلًا قصتنا عن “الرفيق النقابي” الذي جاء إلى مدينة عمالية قادما من “الغار والقيفار”، ليصبح أحد الوجوه النقابية المرموقة. بدأ ككل العاملين العاديين في المعمل، ولكن “الهواء النقي” للنقابة دفعه للانخراط في عالم لا تراه إلا إذا كنت تمتلك “ما يكفي من الكاريزما والتدبير”. فبدلاً من أن يخدم العمال، بدأ هو نفسه في خدمة المصالح الشخصية.
في البداية كان “يتنكر” ويظهر على أنه مجرد عضو نقابي شاب، ينتظر فرصته ليخدم العمال. وفيما يبدو، كانت النقابة بالنسبة له مجرد “ورقة توت” يستر بها طموحاته السياسية والمادية. في خضم تلك اللعبة، لاحظ الرجل أن الجيل الأول من النقابيين الذين كانوا يتسمون بقدر من الجدية بدأوا يتقاعدون، ومعهم رحل كثير من الضمير المهني. فجأة، تجد هذا الشخص يترقى في الهيكل النقابي بسرعة الضوء. تحول من مجرد “مستفيد متسلسل” إلى شخصٍ يعتقد أن النقابة حققت له “نقلة نوعية” في حياته.
لكن القصة لا تنتهي هنا، فقد أصبح هذا “النقابي” على استعداد للدخول في صفقات مع الإدارة دون علم باقي زملائه النقابيين، متجاوزًا المواعيد، مكتفيًا بعلاقات خلف الكواليس ورغبة عارمة في الوصول إلى “المستوى الأعلى” من السلطة. والمثير للسخرية أنه وصل إلى قمة العجرفة الجوفاء، وبدأ يتفاخر بأدائه النقابي وكأن ما ظل يفعله هو “إنجاز تاريخي”، بينما الواقع يقول إنه ببساطة كان ومازال مجرد “تاجر” بالأزمات.
إذاً، عندما نحلل هذه الظاهرة، سنكتشف أن العمل النقابي في كثير من الأحيان يتحول إلى منصة لتحسين الوضع الشخصي وتوسيع دائرة النفوذ، بدلًا من أن يكون وسيلة لخدمة المصالح الحقيقية للعمال. فالرجل في قصتنا لم يكن يسعى لتحسين ظروف زملائه، بل كان همه الوحيد هو كيف يربح من هذه النقابة وما هو المكسب الذي يمكنه أن يحققه من هذا “العمل الطيب”. وهنا تكمن المأساة، حيث أصبح العمل النقابي بديلاً عن السياسة. ففي ظل الواقع الاجتماعي المظلم، يصبح النقابي “الطموح” هو “بطل الشعب” بينما هو في الواقع مجرد “شخص يركب موجة العاطفة الشعبية لأغراض خاصة”.
في هذا السياق، لم يعد العمل النقابي كافيًا له، بل بدأ في الانخراط في السياسة، حيث وجد في العلاقات “المشبوهة” الطريق الأسرع لتحقيق النجاح، لتصبح النقابة بالنسبة له مجرد وسيلة للولوج إلى أفق آخر لا نهاية له. بدأ “يترشح” للأضواء السياسية، فظهرت له تلك الرغبة الجامحة في التلميع الإعلامي والإدعاء بأنه يمثل نضال العمال، بينما هو في الواقع لا يملك من هذا النضال سوى شعارات رنانة يرددها أمام الكاميرات، حيث فشلت خطته في مهدها.
أليس غريبًا هذا؟ شخص ينحدر من طبقة العمال البسطاء ويعتقد أن صعوده إلى “الطبقة العُليا” أمر محتم. ومع ذلك، يبقى هذا الشخص عالقًا في دوامة الجهل بآداب التواصل، إذ أصبح يتفاخر بقوة عضلاته القصديرية التي لا تصلح سوى للتنمر على الطبقة العاملة نفسها، التي ظل يطلق عليها شعارات جوفاء وهو في الحقيقة لا ينفك من دفعهم إلى قاع المأساة.
ومع ذلك، نجد أن هذا “النقابي” قد قرر أخيرًا أن ينقل “تجارته” إلى آفاق أوسع. فهو الآن لا يكتفي باستعداده لتوجيه ضغوطه إلى الإدارة أو التحايل على القوانين النقابية، بل أصبح يحلم بغزو “الغرفة الثانية” للبرلمان، وكأن تلك الغرفة هي آخر أمل له في تحقيق كل ما كان يطمح إليه: الظهور على شاشات التلفزيون، توقيع الاتفاقيات السياسية، والظهور كـ “المخلص” الذي سيغير مسار الأمة.
هذا الشخص الذي كان يومًا ما مجرد عامل بسيط في مصنع، بدأ الآن يرتدي بذلة “المستشارين” ويحلم بأن يكون عضوًا في مجلس المستشارين. بدأ يتدرب على الكلمات الرنانة، “التطوير المستدام” و”العدالة الاجتماعية” و”التنمية الشاملة”، تلك التي لا يعرف عنها شيئًا إلا أنها تفتح له أبواب الإعلام وتزيد من شعبيته بين “أهل الكواليس”. إنه يرى في نفسه المنقذ الذي سيعيد الأمور إلى نصابها، مع العلم أن همّه الأكبر هو النصيب الأكبر في “الصفقة النقابية” القادمة. فهو يستعد حاليًا لدخول البرلمان ليقدم نفسه كـ “قائد الإصلاحات” في الوقت الذي يعتقد فيه أن الواقع هو مجرد “خدمة مواطنين” لينال عطفهم وكسب تأييدهم لمشروعه الشخصي.
لا شك أن هذا الشخص يجلس في زوايا غرفته، يعكف على التحضير لخطابه في البرلمان، متخيلًا نفسه وهو يتحدث بثقة عن القضايا التي لا يعرف تفاصيلها إلا من خلال ما يسمعه في النشرات الإخبارية. يتصور أنه بمجرد أن يتربع على أحد المقاعد، سيتحول إلى “زعيم الأمل” الذي سيجلب الرخاء للمجتمع. في الوقت نفسه، هو لا يفكر إلا في كيفية استغلال تلك الفرصة ليصنع لنفسه مستقبلًا سياسيًا، عبر شبكات العلاقات المشبوهة التي بناها طوال سنوات من “النضال النقابي” المُتَحَسّس.
إن همه الوحيد يتعلق باستبدال أتباعه النقابيين بعلاقات “أعلى مستوى”. أما عن أجندته النقابية والسياسية؟ فهي مثل كل شيء في حياته، مليئة بالشعارات العامة التي لا يتقن منها سوى الطريقة المثلى لرفعها في المناسبات.
نعم، نحن لسنا ضد الطموح الشخصي، ولا ضد السعي لتحسين الوضع الاجتماعي، ولكننا ضد أولئك الذين يتاجرون بحقوق الآخرين. نحن ضد المرتزقة الذين يحاولون استغلال مناصبهم النقابية لتحقيق مصالح شخصية في سعيهم المستمر نحو “بديل المستقبل”. هؤلاء هم الذين يظنون أن النقابة مجرد سلم للارتقاء الاجتماعي، متجاهلين أن النقابة لا تعني سوى أن تكون صوتًا للعمال، لا أداة لصناعة الطموحات الشخصية.
للأسف، هذا هو حال كثير من النقابيين، حيث تداخلت السياسة مع العمل النقابي بشكل غير صحي، فتحول العمل النقابي إلى ميدان صراع من أجل مكاسب فردية، وترك العمال خلفهم. أين ضميرهم؟ أين مصلحتهم؟ في النهاية، لا شيء يثبت أن هذه الفئة حققت شيئًا حقيقيًا للعمال إلا مكاسبها الشخصية.
درسٌ أخير: النقابة كانت وما زالت وسيلة للارتقاء بالطبقة العاملة، ولكن إذا تحولت إلى أداة لمصالح فردية أو سياسية، فإننا نجد أنفسنا أمام ظاهرة سلبية تضر بجوهر الحركة العمالية. إذا كنا نطمح إلى بناء “مستقبل بديل”، فإن الأمر يتطلب منا تعزيز وعي عميق بمسؤولياتنا تجاه الطبقة العاملة. يجب أن نبتعد عن كل الألاعيب السياسية أو الاقتصادية التي قد تحول النقابات إلى مجرد أدوات تسويقية لخدمة مصالح أفراد ليس لهم أي ارتباط حقيقي بالقضايا التي يجب أن تمثلها النقابة. في هذا السياق، يمكن التفكير في بناء نموذج بديل يرتكز على العمل التجاري أو المبادرات الاجتماعية التي لا تعتمد على العمل النقابي التقليدي، بل تسعى إلى تقديم حلول تنموية مبتكرة بعيدًا عن التلاعب والتوجيهات الخارجية.