اليساريون القدامى في المغرب: من مقاومة الفقر إلى تراكم الثروات
دابا ماروك
في المغرب، يحتل موضوع اليساريين القدامى الذين أصبحوا من الأثرياء موقعًا حساسًا في النقاش العام، فهو يعكس مسارًا سياسيًا واقتصاديًا شهدته البلاد منذ عقود. ففي فترة السبعينيات والثمانينيات، كان هؤلاء اليساريون يمثلون تيارًا سياسيًا يتبنى أفكار الاشتراكية ويسعى للعدالة الاجتماعية والدفاع عن حقوق العمال والكادحين في المغرب. إلا أن مشهد اليوم قد اختلف، إذ نجد بعض هؤلاء اليساريين قد تحولوا إلى شخصيات اقتصادية وسياسية بارزة، ويمتلكون ثروات ومشاريع تجارية جعلتهم جزءًا من نخبة المملكة.
خلفية تاريخية عن اليسار المغربي
برز التيار اليساري في المغرب كرد فعل على أوضاع سياسية واجتماعية كانت تطغى عليها الفوارق الاقتصادية الصارخة. وشكل هذا التيار، بمختلف فصائله، صوتًا مطالبًا بالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وامتدت شعبيته بين الشباب والنخب المتعلمة، وشملت مجالات الثقافة والأدب والنضال وساهمت في التأثير على الرأي العام. وقد تم استهداف بعض الشخصيات اليسارية بالسجن والنفي، مما جعلها رمزًا للمقاومة في وجه السلطة.
التحولات الاقتصادية والسياسية
منذ التسعينيات، شهد المغرب تحولات كبرى تمثلت في انفتاح اقتصادي وسياسي أتاح مزيدًا من الحريات ومجالات النشاط الاقتصادي. وقد تمكن بعض القيادات اليسارية السابقة من الاندماج في النظام السياسي من خلال العمل السياسي، في حين أعاد آخرون إحياء نشاطاتهم ليظهروا فجأة ضمن أصحاب الرساميل. ولم يكن هذا التحول مرتبطًا بشكل مباشر بسياسة الخصخصة، بل جاء نتيجة لتطورات اقتصادية ساهمت في بروز نخبة جديدة من رجال الأعمال، كان من بينهم شخصيات يسارية سابقة انتقلت من ساحات النضال إلى مواقع مؤثرة في القطاع الخاص، حيث أصبحوا يشرفون على مشاريع ومؤسسات اقتصادية بارزة.
الانتقادات الموجهة إلى اليساريين الأثرياء
يثير تحول اليساريين السابقين إلى أثرياء انتقادات كثيرة، إذ يتهمهم البعض بالتخلي عن المبادئ التي ناضلوا من أجلها، خاصةً ما يتعلق بالدفاع عن العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق الاقتصادية. ويرى البعض أن هؤلاء قد تكيفوا مع النظام الاقتصادي الرأسمالي، بل استفادوا من امتيازات وعلاقات رسمية جعلتهم ينخرطون في الاقتصاد الليبرالي.
وبالنسبة للبعض، فإن هذا التحول يعكس ازدواجية في الخطاب والممارسة، حيث يندد هؤلاء بالمشاكل الاجتماعية من منطلقات نظرية، في حين أنهم باتوا جزءًا من طبقة الأثرياء التي تستفيد من الامتيازات الاقتصادية والفرص الاستثمارية. كما يعبر آخرون عن أن هذا التحول ليس بالضرورة خيانة للمبادئ، بل انعكاس “لتحولات العصر وتغير الأولويات”.
نظرة على أسباب التحول
قد تفسر هذه التحولات بما يعرف بمرونة التيار السياسي في التكيف مع الواقع، حيث اضطر عدد من القيادات السابقة إلى إعادة تقييم موقفهم من الاشتراكية والأفكار الاقتصادية اليسارية، خاصة مع تغير طبيعة الاقتصاد المغربي وتحوله نحو الاقتصاد الليبرالي الذي فرض نفسه كخيار استراتيجي.
أيضًا، قد تكون عوامل مثل النمو الشخصي والتطلعات الفردية سببًا رئيسيًا في انتقال هؤلاء الشخصيات إلى دوائر النفوذ والثراء. فعند تعقيد ظروف الحياة وتعاظم المنافسة، يبحث الكثيرون عن طرق بديلة وبأي طريقة لضمان الاستقرار الاقتصادي لأنفسهم ولأسرهم، وهو ما قد يجعلهم يقبلون بشروط الكواليس وبالاندماج في النظام القائم.
الدور الحالي لهؤلاء اليساريين الأثرياء
رغم التحولات، يظل لهؤلاء الأثرياء ذوي الخلفيات اليسارية دور بارز في الشأن العام، سواء على مستوى الجمعيات أو كمستشارين وصانعي قرار. كما يواصل بعضهم رفع شعارات العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، ما يضعهم في مرمى انتقادات الفئات الشعبية التي كانت تثق في رموز اليسار سابقًا، لكنها اليوم ترى فيهم جزءًا من المنظومة التي ينتقدونها.
خلاصة
قضية “اليساريين الأثرياء” في المغرب تظل ملفًا مركبًا يعكس إشكالية الجمع بين الأيديولوجيا والواقع، ويكشف كيف أن التحولات السياسية والاقتصادية قد تجبر حتى المدافعين عن العدالة الاجتماعية على إعادة النظر في مساراتهم، حيث يتحول المناضلون السابقون إلى رجال أعمال، وهو ما يثير تساؤلات عميقة حول المبادئ، المصالح الشخصية، ومدى قابلية الأيديولوجيا للصمود أمام مغريات الثروة والسلطة.