بين القيم والمهنة: رحلة صحفية تمتد لعقود
محمد صابر
تتوالى الأيام، وتظل بعض الأسئلة تطرق أبواب عقولنا، متسللة إلى قلوبنا، حيث نحلم بيومٍ تتبدد فيه الأحزان، ويحل الفرح محلها. في خضم الضغوط اليومية، ينمو داخلنا توق عميق إلى لحظة هادئة، تملؤها السكينة والطمأنينة؛ لحظة نرى فيها الشمس تشرق بنورها الدائم، دون أن يغيب شعاعها، ليضيء حياتنا ويبدد كل ما يعكر صفوها من هموم وقلق.
نغتنم هذه الفرصة لنذكر قراءنا، خاصة الجدد منهم، أن مسيرتنا المهنية لم تبدأ صدفة أو نتيجة لتزامنها مع ثورة الهواتف الذكية، التي أصبحت في متناول الأطفال قبل الكبار. بل، بدأ مشوارنا الصحفي في منتصف الثمانينيات، عندما كانت الساحة الإعلامية تزخر بأسماء كبيرة. أسماء لم تكن تلهث وراء السيارات الفاخرة أو المناصب الرفيعة، بل كانت صحافتهم رسالة سامية. في تلك الأيام، كان الصحافيون يعملون في الظل، بعيدًا عن أضواء الكاميرات ووهج التلفزيون. وعندما انخرطنا في هذا المجال، تعلمنا على أيدي هؤلاء الرواد، الذين لم يبخلوا علينا بالتوجيه والتأطير.
تحت ظل هؤلاء الأساتذة، أدركنا أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي رسالة نتحملها بكل جدية وإخلاص. ومع الأسف، رحل هؤلاء العمالقة عن الدنيا، لكنهم تركوا لنا إرثًا نفخر به، نعتمد عليه ونحن نواصل المسيرة.
خلال رحلتنا المهنية، أسسنا صحيفة جهوية جادة استمرت على مدى ثلاثة عقود. كانت تجربة غنية، مليئة بالتحديات والمكاسب. وهنا نؤكد للجميع أنه لا فرق بين صحفي في منبر وطني وآخر في منبر جهوي؛ فالصحافة الجهوية لها طابعها الخاص، حيث تلتحم بشكل مباشر مع قضايا المجتمع، وهي أكثر انتشارًا في بعض الدول المتقدمة. بل إن العديد من الصحف العالمية الكبرى انطلقت من المحلية قبل أن تتحول إلى دولية.
طوال تلك العقود، تعلمنا كافة تقنيات الكتابة الصحفية، بدءًا من تحرير الأخبار، مرورًا بإعداد الربورتاجات والتحقيقات الميدانية، وصولًا إلى كتابة الأعمدة والافتتاحيات والمقالات التحليلية. كان تحديًا ممتعًا فتح أمامنا أبوابًا واسعة لفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية بعمق.
بعد هذه الرحلة الطويلة، قررنا أن نخرج من دائرة الإعلام التقليدي، لنخوض في مجال التواصل المؤسساتي، حيث قمنا بتأليف ونشر العديد من الكتب. في الوقت نفسه، كنا نقدم دورات تدريبية في التكوين المستمر لفائدة المهندسين والأطر حول تقنيات وأساليب التواصل الداخلي.
كما كتبنا أخيرا مقالًا ناقشنا فيه التحديات التي يواجهها المقاولون الصغار والمتوسطون، الذين غالبًا ما يفتقرون إلى ” خالة في العرس ” أو دعم داخلي يمكنهم من النجاح داخل المؤسسات.
ومع مرور الزمن، وتفاقم الانتهازية والوصولية في مختلف المجالات، اتخذنا قرارًا بـ “الاستقالة” من مجتمع بدا لنا غريبًا، حيث تدهورت العلاقات الإنسانية، وأصبحت الصداقات الحقيقية نادرة. لكن، وبعد سنوات من العزلة، قررنا العودة إليكم عبر هذا الموقع، الذي نعتز بمحتواه. نعلم أن ما نقدمه لا يجذب الباحثين عن الإثارة الرخيصة، لكننا واثقون بأن دعمكم سيجعل من هذا الموقع وجهةً للقراء الجادين.
نحن واعون تمامًا أن الصحفي الجاد هو شخص غير مرغوب فيه في كثير من الأحيان، فهو لا يسير مع التيار السائد ولا ينجرف وراء ما يتماشى مع رغبات البعض. في هذا السياق، يتعرض الصحفي الملتزم بالقيم والمبادئ المهنية لدسائس ومحاولات للعرقلة. ومع ذلك، نؤمن بأن الصدق والإخلاص في العمل هما السبيل الوحيد للنجاح والاستمرار، حتى وإن كانت هذه الطريق مليئة بالتحديات والأشواك. ونحن، بكل شغف، نمد أيدينا لتكوين جيل جديد من الصحفيين، لنشاركهم تجربتنا ونمنحهم الأدوات اللازمة لمواصلة الطريق بكل جدية وإخلاص.
رغم كل التحديات التي نواجهها، سواء كانت في الموارد البشرية أو المادية، نواصل العمل دون كلل أو ملل، مؤمنين بأن ما نقدمه يستحق العناء. نرفض الانجرار وراء ما يتعارض مع قيمنا، ونتمسك بمبادئنا، مفضلين السير في طريق النقاء الأخلاقي والمهني الذي يناسب مسيرتنا.
في لحظات الإحباط، نتمسك بشغفنا. نعرف أن الطريق ليس سهلاً، لكننا نؤمن بأن الشمس ستشرق يومًا ما، وسيظل الأمل حيًا في قلوبنا، ليضيء لنا الطريق ويمنحنا القوة للاستمرار.