مجتمع

انتقادات حادة لمشروع قانون المسطرة المدنية من قلب النظام القضائي المغربي

الرد الواضح على التضليل الفاضح

الأستاذ يوسف عبد القاوي عضو مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء

أصيب المتابعون للمستجدات التشريعية، وخاصة قانون المسطرة المدنية، بالصدمة والذهول عند اطلاعهم على مقال منسوب إلى السيد وزير العدل، يجيب عن “سؤال الدستورية” بعد المصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب. يتناول المقال موضوع عدم دستورية بعض مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية، ويدعو إلى خلط غير مبرر بين عدم دستورية بعض المواد وإجراءات التشريع التي اتبعت لإقرار هذا المشروع، بأسلوب عنيف غير مسبوق لا يرفع لبساً، ولا يوضح غموضاً، ولا ينير الرأي العام. وقد استخدم المقال مفاهيم وتعابير تنهل من معجم التشنج وضيق الصدر في مواجهة النقد البناء.

وما إن يلقي القارئ نظرة على هذا المقال، الذي يُسمى تنويراً، حتى يتذكر قصة التلميذ الذي اعتاد تناول موضوع الحديقة في كل موضوع إنشائي، وعندما طُلب منه كتابة موضوع حول الطائرة، كتب عن سقوط الطائرة في الحديقة وواصل وصف الحديقة. لم يتناول المقال الأمور الأساسية، بل اختزل المآخذ في حدود المادة 17 من المشروع، وهي مسألة لم يتم التطرق إليها أو مناقشتها من قبل أي معارض للمشروع.

بحسب كاتب المقال، إذا كنت معارضاً للمشروع أو لديك تحفظات، فأنت: “لست مراقباً معقولاً بل تحكمك حسابات سياسوية أو فئوية ضيقة”، و”تقول عن غير معرفة بمخالفة المشروع للدستور ومبادئه الكبرى”، وهو ما يمثل ضرباً صارخاً لمعايير النقد البناء، وتحريفاً للمفاهيم، وتبخيساً للمبادرات، وتسفيهاً لعمل المؤسسات، واستهدافاً للمجهودات المبذولة.

كان ينبغي لكاتب المقال، حسب تعبير الأستاذ عبد الكبير طبيح، الإشادة بكل وجهات النظر العلمية الرصينة التي صاحبت هذه المبادرة التشريعية، والتنويه بالترافع الفكري والقانوني البناء، الذي شكل قوة اقتراحية جدية استهدفت تفادي القصور الذي اعترى المشروع، والثناء على جميع محاولات المساهمة في تحسينه وضمان حماية حقوق المتقاضين. وهذا بعيد عن ضيق الصدر والتعالي الذي يتسم به البعض.

تجاهل محرر المقال أدبيات جمعية هيئات المحامين بالمغرب التي طالما نادت من خلال توصيات مؤتمراتها بتوسيع مجال تدخل المحامين لتحقيق الولوج المستنير والمتبصر للعدالة، وذلك من خلال دعوة وزارة العدل إلى القيام بكل الإجراءات الضرورية لمراقبة وضبط جميع المتدخلين في مهام الدفاع، ومراقبة ممارسة مكاتب الاستشارات وشركات التحصيل، وتطبيق المقتضيات القانونية في مواجهتها.

كما طالبت الجمعية بإلزام الدولة والمؤسسات العمومية وشبه العمومية بتنصيب محامٍ في جميع القضايا التي تكون طرفاً فيها، وبإلزامية تنصيب المحامي في جميع القضايا دون استثناء، وبإلزامية التعاقد مع محامٍ أو محامية بالنسبة للنوادي والهيئات والجمعيات الرياضية.

فضلاً عن رفض المادة 17 جملة وتفصيلاً بسبب مسها بقوة من الشيء المقضي به واستقرار المعاملات والأمن القضائي عموماً، فإن المآخذ بخصوص مشروع قانون المسطرة المدنية عديدة ومسنودة.

  1. مشروع قانون المسطرة المدنية يتجاهل مبدأ “تقريب القضاء من المتقاضين” و”القضاء في خدمة المواطن

لا شك أن القضاء هو المحفز والمحرك والمشجع على الاستثمار، وتقريب القضاء من المتقاضين وتيسير الولوج إلى العدالة يعدان أحد مقومات تحقيق المحاكمة العادلة وأساس دولة الحق والقانون. وقد عكس مشروع قانون التنظيم القضائي هذا النقاش، وحسم الأمر تقريباً باتجاه توفير خدمة قضائية قريبة من المتقاضي، وأنهى تجربة التخصص التي عرفها المغرب لعقدين في المجالين الإداري والتجاري.

ومع ذلك، فإن مبدأ تقريب القضاء من المتقاضين لا يمكن اختزاله في مجرد تقريب بنايات المحاكم. المفهوم أشمل وأوسع ويتجاوز ذلك إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار المستجدات في العمل القضائي وحماية المتقاضي. وقد أرسى جلالة الملك في افتتاح الدورة التشريعية لعام 2010 مفهوماً جديداً لإصلاح منظومة العدالة، وهو “القضاء في خدمة المواطن”، والذي يتطلب قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين وببساطة مساطرها وسرعتها ونزاهة أحكامها وكفاءة قضاتها.

2. مشروع المسطرة المدنية يقيد الحق في الولوج إلى العدالة ويمس بمبدأ التقاضي على درجات

مفهوم المحاكمة العادلة يشمل التشريع القانوني وتيسير سبل اقتضاء الحق بشكل سلس، وسلامة الإجراءات أثناء سريان الدعوى وضمان الطعون وفعالية التنفيذ. ومع ذلك، فإن مشروع قانون المسطرة المدنية يتضمن مقتضيات تقيد حق المواطن الأساسي في التقاضي، من خلال فرض غرامات على من يتقدم بدعاوى يعتبرها القاضي مبنية على سوء نية، مما يكرس تمييزاً على أساس المستوى الاجتماعي.

كما جاء مشروع القانون بمقتضيات تحد من حق الاستئناف والطعن بالنقض، حيث لا يحق للطعن إلا إذا تجاوزت قيمة القضية 80 ألف درهم، مما يعد تراجعاً عن المكتسبات ويستهين بالوضع المالي للمواطن البسيط.

3. مشروع المسطرة المدنية يسمح لغير المحامين بمزاولة مهام الدفاع ويشرعن كيانات هجينة تتغذى من مجال عمل المحامي

مشروع قانون المسطرة المدنية يفتح الباب لغير المحامين للظهور في الجلسات بالمحاكم، مما يمثل تهديداً للأمن القضائي ويخلق غطاء قانونياً للسمسرة بالمحاكم، متناقضاً مع جهود تخليق القضاء والمحاماة. النصوص القانونية التي تسمح لغير المحامين بمزاولة مهام الدفاع تشير إلى توجه نحو التقليص من دور المحامين وفتح المجال لتدخل السماسرة والمتطفلين في المجال القضائي.

4. مشروع المسطرة المدنية لا يضمن تسريع وتيرة معالجة القضايا ولا يقارب إشكالية التبليغ بالعمق المطلوب

رغم الحاجة إلى سن مقتضيات تسهم في البت في القضايا داخل أجل معين، فإن المشروع لم يعالج إشكالية التبليغ بشكل جذري، ولم يتطرق بعمق للتبليغ الإلكتروني، وهي وسيلة فعالة قد تساهم في تحقيق النجاعة المرجوة وتقليص عمر الملفات القضائية.

5.بخصوص المحاولات اليائسة للاستنجاد بمؤسسات دستورية قصد تمرير المشروع

بعدما اشتد الخناق على واضعي مشروع قانون المسطرة المدنية بسبب الانتقادات الواسعة لمضامينه، والتي تصر على تمريره على علاته، وخاصة خرقه لمقتضيات الدستور والاتفاقيات الدولية، فقد عبر رئيس مجلس النواب عن الرغبة في إحالة المشروع (كليا أو جزئيا، الله أعلم) على المحكمة الدستورية، التي يعتبر مبرر وجودها تعزيز دولة القانون، وترسيخ مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا. وذلك من أجل استقصاء رأيها بخصوص مطابقة تلك المقتضيات للدستور من عدمه، وذلك بعدما كان السيد وزير العدل يتحدث بثقة ويجزم بدستورية تلك المقتضيات.

ولا شك أن مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية تمس بمبدأ المساواة الذي تكرسه مقتضيات المادة 6 من الدستور التي تساوي بين الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين ولا تميز بينهم، كما تخرق مبدأ المساواة حيث تسقف الحق في اللجوء إلى درجات التقاضي الأعلى في مبالغ مالية، وتخرق مقتضيات المادة 118 من الدستور عندما تقيد وتقوض الحق في اللجوء إلى القضاء عبر إغراق هذا النص بالغرامات وغيرها مما يجعل من هذا النص تحث شقف الدستور بكثير. كما تخرق مقتضيات المواد 120 من الدستور عبر مسها بالحق في المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع، وبمقتضيات المادة 126 عبر مسها بالطابع الإلزامي للجميع بخصوص الأحكام النهائية (المادة 17).

وعبر أيضا السيد وزير العدل نفسه عن اعتزامه إحالة المشروع على مجلس المنافسة للقول بأحقية المحامين في احتكار التمثيل أمام القضاء من عدمه، مع أن الاحتكار المتحدث عنه ليس بمفهومه الاقتصادي بل المقصود به أن التمثيل أمام القضاء والإدارات العمومية والمجالس التأديبية ومنح الاستشارة هي اختصاص حصري لمؤسسة تسمى المحامي منحها إياه المشرع والاتفاقيات الدولية بحكم تكوينه وتخصصه، كما يتخصص حصريا العدول في تحرير عقود الزواج والنيابة العامة في تسطير المتابعات، والقضاة في إصدار الأحكام، وكاتب الضبط في تحرير محاضر الجلسات وهكذا.

فطبقا لأحكام الفصل 166 من الدستور، يعتبر مجلس المنافسة مؤسسة مستقلة مكلفة، في إطار تنظيم المنافسة الحرة والعادلة، بضمان الشفافية والعدالة في العلاقات الاقتصادية، لا سيما من خلال تحليل وضبط وضعية المنافسة في الأسواق، ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار.

ولعل التفكير في إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية يعكس بعمق عدم استيعاب لمهنة المحاماة ومبرر وجودها ومكانتها ودورها وينزلها منزلة النشاط التجاري.

ولو كان مجلس المنافسة مختصا للنظر في منافسة مهنة المحاماة لمؤسسات أخرى هجينة تفتقر للتكوين والصفة، فإنه أول من سينادي بإلغاء ما يسمى بالمستشار القانوني، الذي نص عليه القانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة الصادر في الجريدة الرسمية العدد 6276 بتاريخ 24 يوليو 2014. هذا القانون جعل من مجلس المنافسة جهة تنظر في الممارسات غير القانونية المنافية لقواعد المنافسة وحرية الأسعار وعمليات التركيز الاقتصادي. وقد أورد هذا القانون مصطلح حقوق الدفاع غير ما مرة، حيث جاء في مادته 33 عن كيفية انعقاد جلساته: “..يمكن للأطراف المعنية أن يستعينوا أو يمثلوا بمستشارين قانونيين من اختيارهم..” والمساطر المتبعة أمام مجلس المنافسة تتقاطع مع تلك المتبعة أمام المحاكم العادية مثل مسطرة المقرر وقواعد التقادم وغيرها. كما أن قرارات مجلس المنافسة تقبل الطعن بالنقض أمام الغرفة الإدارية لمحكمة النقض أو الاستئناف أمام محكمة الاستئناف بالرباط، وذلك حسب طبيعة القرار. وللإشارة، لم يأت هذا القانون على ذكر المحامي.

إن قانون مهنة المحاماة نفسه يمنع على المحامي ممارسة التجارة، فهو لا يبيع سلعة ولكن يقدم خدمة، مقابلها ليس ثمنا ولكن أتعابا. واختصاصاته يستمدها من القانون بحكم تكوينه ومؤسساته وتأمينه على المسؤولية المدنية وتعدد الضمانات التي يقدمها للموكل. فهل سيتم الاحتكام لمجلس المنافسة بخصوص احتكار مؤسسة النيابة العامة لتسطير المتابعات واحتكار القاضي لإصدار الأحكام واحتكار الطبيب لإجراء العمليات الجراحية وهكذا، وهو الأمر الذي لا يستقيم حتى التفكير فيه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى