الرأي

حرية الرأي بين الواقع والممارسة: دور القضاء في حماية الحقوق

من إعداد وإسهام: الأستاذ عبد العالي المصباحي/ المحامي العام بمحكمة النقض ورئيس رابطة قضاة المغرب

يعد موضوع حرية الرأي من القضايا الحيوية التي تشغل بال المجتمع المغربي، خاصة في ظل التحولات الديمقراطية التي تشهدها البلاد. فحرية التعبير ليست مجرد حق أساسي يكفله الدستور، بل هي أيضًا محور أساسي في بناء مجتمع مدني متفاعل ومشارك.

إن العمل القضائي يلعب دورًا محوريًا في تنظيم هذه الحرية، حيث يسعى إلى تحقيق التوازن بين حماية حقوق الأفراد وضمان النظام العام. لذلك، فإنه من الضروري فهم كيفية تفاعل الممارسة القانونية مع الممارسات القضائية، وكيف يمكن للقضاء أن يكون ضمانة لهذه الحرية أو أن يتحول إلى عقبة أمامها.

في هذا الإطار، يُعد الأستاذ عبد العالي المصباحي، المحامي العام بمحكمة النقض ورئيس رابطة قضاة المغرب، من أبرز الأصوات القانونية التي تسلط الضوء على هذه القضايا. من خلال هذا المقال، سيستعرض لنا الجوانب المختلفة لحرية الرأي، مبرزًا التحديات التي تواجهها، وكيفية معالجة القضاء لهذه القضايا بما يتماشى مع المعايير الدولية.

نأمل أن يسهم هذا المقال في إغناء النقاش حول حرية الرأي في المغرب، ويعزز الوعي بأهمية القانون في حماية هذه الحرية.

يبقى القضاء أولًا سلطة تم إنشاؤها للفصل بين الأفراد في ما بينهم، أو فيما بينهم وبين الإدارات والمؤسسات العمومية. تسعى هذه السلطة إلى تحقيق العدالة من خلال التطبيق السليم للقانون.

وقد وضع المشرع القانون بين يدي القضاة، ليكون بمثابة أدوات تساعدهم في أداء مهامهم.

وبهذا، يقوم السادة القضاة ببثّ العدالة في الدعاوى المعروضة عليهم، مما يعزز الثقة في النظام القضائي.

إذا أردنا أن نتحدث عن حرية التعبير والرأي، فهو حق دستوري أولًا نص عليه في عدد من الفصول، وخصوصًا الفصل 25 منه، حينما قال: “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”.

تتميز هذه العبارات بضبطها ودقتها، حيث إن الفكر يمثل مجموعة القناعات المادية والروحية والوجدانية.

أما الرأي، فهو ما تبديه من أجوبة شفاهية وتصرفات وأفعال تحدد مواقفك في عدد من الأمور والقضايا.

فيما يتعلق بالتعبير، فهو المجاهرة بآرائك الفردية أو الجماعية في إطار معين حول القضايا والتوجهات التي تتخلل مجريات الحياة العامة.

وقد يكون هذا التعبير منظمًا في شكل حزبي أو جمعوي أو نقابي أو منظماتي، أو قد يكون فرديًا في إطار الكتابة والتأليف والنشر.

حينما اعتبر المشرع حرية التعبير والرأي حقًا دستوريًا، فإنه في المقابل جعله واجبًا على عاتق الدولة، لتعمل على حمايته وتوفير المناخ اللازم لممارسته.

وهكذا جاء المشرع بقانون الحريات العامة، وهو قانون الصحافة والنشر، بالإضافة إلى قانون الحق في التجمهر، وقانون الحق في تأسيس الجمعيات، وقانون الأحزاب والنقابات.

كما أعطى الدستور لكل مواطن الحق في المعلومة، والحق في المشاركة في اقتراح القوانين، والحق في تسيير الحياة العامة، والحق في التصويت وانتخاب ممثلي الأمة، والحق في التجول.

وتتوزع هذه الحقوق بشكل متساوٍ بين الرجل والمرأة، مما يجعل القانون، حسب الفصل العاشر، أسمى تعبير عن إرادة الأمة.

إلا أن هذا الحق في التعبير والرأي، إذا ما تركه المشرع على عواهنه، قد يتعرض لسوء الاستخدام والشطط في الممارسة.

مما قد يؤثر سلبًا على حقوق الغير ويخرق أنظمة المؤسسات.

وهذه كانت الغاية من تقييد هذا الحق، حتى يمارس في حدوده الحقيقية والمعقولة.

فنجد أن المشرع سن قوانين لحماية ثوابت الأمة، والنظام العام، والآداب العامة، والحياة الخاصة للأشخاص، والمعطيات الشخصية، وشرف وكرامة الأشخاص والمؤسسات، حتى لا تحيد حرية التعبير عن مسارها الصحيح الذي شُرّعت لأجله.

والقضاء، بصفته سلطة الفصل في النزاعات وسماع المظالم، دأب على البث في القضايا التي ترفع بين يديه للنظر في الجرائم التي قد ترتكب في إطار ممارسة هذه الحرية، ألا وهي حرية التعبير، سواء كانت صادرة عن أشخاص أو مؤسسات وهيئات، كأن تصدر عن الصحافيين.

ومن بين هذه القضايا، نجد مثلاً جرائم السب والقذف، وإهانة الهيئات المنظمة، ونشر الأخبار الزائفة، والتشهير، وغيرها من الجرائم المعاقب عليها في إطار القانون الجنائي أو القوانين الجنائية الخاصة، كقانون الصحافة والنشر.

ولأن المغرب، في إطار استكمال بنائه الديمقراطي، ما فتئ يعدّل قوانينه وتشريعاته لتتلاءم مع قوانين المنتظم الدولي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، فقد عرف قانون الصحافة الصادر سنة 1958 عدة تعديلات مهمة.

كان آخرها مشروع 2007 الذي تم الاشتغال عليه من طرف لجنة مختصة، ليوافق المقتضيات الجديدة لدستور المملكة.

وقد تمت المصادقة على هذا القانون، وخرج حيز التنفيذ سنة 2016 تحت اسم قانون الصحافة والنشر، والذي جاء بتعديلات جد مهمة، أولها حذف العقوبات الجبسية على عدد من الجرائم.

كما أن العمل القضائي، وخصوصًا في قضاء النيابة العامة، كرس عدة إجراءات مسطرية مهمة، منها تقديم الشكاية الخاصة بجرائم الصحافة أمام القضاء مباشرة، فيما يسمى بالاستدعاء المباشر الذي يسلمه الطرف المدني وفقًا للمادة 384 من قانون المسطرة الجنائية.

تهدف هذه الإجراءات إلى تفادي التأخير الذي كانت تعرفه هذه القضايا بسبب تواجد أطراف الشكاية في مدن مختلفة، مما كان يفوت الفرصة على المشتكي في مثول المشتكى به أمام القضاء بسبب التقادم الذي يطال الشكاية.

خصوصًا وأن أمد التقادم في قضايا الصحافة هو ستة أشهر، وهو أمد جد قصير لاحتواء آجال المساطر والإجراءات الخاصة بالبحث والتكييف والمتابعة والحكم.

وقد ساعد هذا التوجه على توصل أطراف القضية إلى صلح وتنازل عن الدعوى في أغلب الحالات، والتي قد تقتصر على مجرد استعمال الحق في الرد أو تصويب ما جاء به المقال من أمور مغلوطة.

وهكذا، فإن هذا الإيجابي للنيابة العامة للخوض في كل قضايا الصحافة كان له الأثر البالغ في التطبيق السليم لمبدأ ملاءمة المتابعة، وإعطاء الحق للمتضرر في خيار اللجوء إلى القضاء أو المطالبة بالحق في الرد، خصوصًا وأن عددًا من الأشخاص المتضررين من جرائم الصحافة قد يفضلون عدم اللجوء إلى القضاء لأسباب عديدة.

وإذا كان الأمر كما ذكرنا فيما يخص الجرائم المرتكبة في إطار الصحافة الورقية، فإن جرائم الصحافة الإلكترونية تبقى هي المعضلة التي يواجهها المغرب حاليًا، وذلك لما للإنترنت من قوة في اختراق البيوت وضبابية في التعرف على هوية أصحاب المواقع ومكان تواجدهم.

ما يتبع هذا من تحديد للاختصاص المكاني والنوعي ومسألة التقادم بين تاريخ النشر واستمراره.

وهذا ما يجب أن يشتغل عليه المشرع لتضييق الطوق على المتطفلين على مهنة الصحافة، حيث أصبح كل من يتوفر على هاتف ذكي إعلاميًا.

كما أن القضاء وكل الوظائف التابعة له، كالضابطة القضائية مثلاً، غير قادرين على مواكبة هذا الكم الهائل من الجرائم الإلكترونية التي تُروج عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعبر محركات البحث، وذلك لقلة الإمكانيات البشرية واللوجستيكية والتقنية، خصوصًا وأن علوم الإنترنت تتقدم بسرعة الضوء، مما يجعل الجريمة الإلكترونية تسبق آليات المكافحة والزجر.

فالمأمول أولًا هو نشر المعلومة القانونية بين الفئات المجتمعية مع الحث على تخليق الحياة العامة، والتنزيل الحقيقي لمدونة أخلاقيات مهنة الصحافة، مع تحقيق الردع الخاص والعام عن طريق تحريك المتابعات الفورية في حق المستهترين بالقوانين والخارقين لحرمة حرية التعبير والرأي.

فالمشهد الزجري هو أهمّ وأرقى صورة لتطبيق القانون وتحقيق الردع الفوري بنوعيه الخاص والعام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى