من الحقول إلى الأبراج: كيف أحرقت الزراعة المغربية على مذبح العقار؟
دابا ماروك
ظل المغرب يُعرف تاريخيًا كبلد فلاحي بامتياز، بفضل أراضيه الزراعية الخصبة ومناخه المتنوع الذي يسمح بإنتاج محاصيل زراعية متنوعة تلبي احتياجات السوق المحلية وحتى الخارجية. لطالما كانت الزراعة ركيزة اقتصادية واجتماعية هامة، تعزز استقرار الفلاحين وتوفر فرص العمل وتحافظ على الأمن الغذائي. لكن، مع مرور الوقت، شهد المغرب تحولاً تدريجياً في أولويات التنمية الاقتصادية، حيث أصبحت المدن والتوسع العمراني تلتهم مساحات شاسعة من الأراضي الفلاحية.
التحول العمراني والزحف الإسمنتي
في العقود الأخيرة، طغى الزحف الإسمنتي على المشهد، حيث اكتسحت البنايات العالية والعمارات الشامخة الأراضي الفلاحية الخصبة التي كانت يوماً ما مصدر الرزق للعديد من الفلاحين. مع هذا التحول، لم يعد المغرب ذلك البلد الزراعي التقليدي الذي عُرف به. بل تحولت العديد من المناطق التي كانت تعتبر قروية إلى حضرية، بل وحتى ناطحات سحاب حلت مكان أشجار الزيتون وحقول الحبوب.
في زمن ليس ببعيد، كان الفلاحون يعتزون بأراضيهم الزراعية، لكن الضغط العقاري والإغراءات المادية غيرت المفاهيم. تشير بعض الروايات إلى أن بعض الفلاحين قاموا بإحراق أشجار الزيتون في محاولة لتغيير تصنيف أراضيهم من فلاحية إلى غير فلاحية، وذلك بهدف تحويلها إلى قطع قابلة للبناء. السبب وراء هذا التصرف واضح: أسعار الأراضي التي تصنف كأراضي للبناء تتضاعف مقارنة بتلك المخصصة للزراعة، مما يجعل التوجه نحو الاستثمار العقاري أكثر إغراء.
الانتقال من الأراضي الفلاحية إلى المضاربات العقارية
حين كان المغرب بعيدًا عن موجة المستثمرين العقاريين، كانت أسعار الأراضي والمساكن معقولة، حيث لم يكن سعر المتر المربع يتجاوز 200 درهم في معظم المناطق. آنذاك، كان السكن جزءاً من الحياة اليومية للناس وليس جزءاً من مضاربات السوق العالمية. ولكن، مع تزايد التحول الحضري وظهور شركات الإنشاءات الكبرى، قفزت أسعار الأراضي إلى مستويات قياسية. اليوم، في بعض المناطق الحضرية الراقية، قد يصل سعر المتر المربع إلى 15 ألف درهم أو أكثر، وهو تحول يُظهر كيف أصبحت الأراضي الفلاحية السابقة جزءاً من عجلة الاستثمار العقاري.
تأثير التوسع العمراني على الاقتصاد والمجتمع
هذا التحول من الاعتماد على الزراعة إلى العقارات ترك آثارًا عميقة على الاقتصاد والمجتمع المغربيين. فمن جهة، أصبح قطاع العقارات محركًا رئيسيًا للاقتصاد المغربي، يوفر فرص عمل كبيرة ويجذب الاستثمارات الأجنبية. لكن، من جهة أخرى، أدى هذا التحول إلى تقلص المساحات الزراعية وزيادة الاعتماد على الاستيراد لتلبية الطلب المتزايد على المنتجات الغذائية، بما في ذلك اللحوم الحمراء.
حيث لم يعد المغرب قادرًا على تلبية احتياجاته من اللحوم من إنتاجه المحلي بسبب نقص الأراضي المخصصة للرعي والضغط المتزايد على الموارد الطبيعية. وبالتالي، أصبحنا نرى الحكومة المغربية مضطرة لاستيراد اللحوم الحمراء من دول أجنبية، وهو أمر لم يكن يتخيله أحد قبل بضعة عقود حين كانت الأراضي المغربية تُستغل بالكامل للإنتاج الزراعي وتربية الماشية.
المعضلة الحالية: كيف نوازن بين التنمية الزراعية والتوسع العمراني؟
التساؤل الكبير الذي يواجه المغرب اليوم هو: كيف يمكن أن نوازن بين الحاجة إلى تطوير البنية التحتية والتوسع الحضري وبين الحفاظ على التراث الزراعي الذي كان ولا يزال جزءاً من هوية البلاد؟ هل يمكن إعادة النظر في السياسات العمرانية للتخفيف من الزحف الإسمنتي وحماية الأراضي الفلاحية المتبقية؟ وكيف يمكن تشجيع الفلاحين على الاستمرار في العمل الزراعي بدلاً من الاندفاع نحو بيع أراضيهم للاستثمار العقاري؟
إن الجواب على هذه الأسئلة يتطلب جهوداً مشتركة بين الدولة والمستثمرين والمجتمع المدني، من خلال وضع خطط طويلة الأمد تستند إلى التنمية المستدامة. يجب التركيز على تحسين البنية التحتية في المناطق القروية لتشجيع الفلاحين على الحفاظ على نشاطاتهم الزراعية، وتوفير حوافز تجعل من الزراعة خياراً أكثر جاذبية مقارنة بالعقار.
النتيجة النهائية: ضياع التوازن بين المدار القروي والحضري؟
مع كل هذا التحول، يبدو أن التوازن بين المدار القروي والحضري قد انقلب رأساً على عقب. الأراضي التي كانت تزهر بالقمح والزيتون أصبحت الآن تزينها العمارات الشاهقة، والقرى التي كانت تغذي المدن أصبحت اليوم تبحث عن الغذاء من الخارج. وبينما تحقق العقارات أرباحاً هائلة، يعاني قطاع الفلاحة من تحديات متزايدة.
نحن اليوم في مرحلة تحتاج فيها المغرب إلى إعادة النظر في توجهاتها التنموية. هل نستمر في دعم التوسع العمراني بلا حدود، أم نعود إلى الجذور ونحاول حماية ما تبقى من أراضينا الزراعية؟