التنوير بين التراث والمستقبل: نحو حوار مثمر
سعيد طلحا
كاتب مقيم في المغرب
رغم حبيل التنوير، كقيمة إنسانية وفلسفية عظيمة، صرت أتعوّس من بعض “التنويريين” العرب، الذين أصبحت لديهم حساسية زائدة من كل ما هو تراث أو ماضٍ، حتى لا أقول دين!
إن رد الفعل لا يصير أبداً فعلاً! من حقك أن تغربل التراث، بل من أوجب الواجبات عليك، إن كنت تحترم عقلك وعصرك، أن تفعل ذلك. ولا عزاء لمن يقول: “ليس في الإمكان أحسن مما كان!” لكن ليس من حقك استئصال التراث أو شطبه كلية، لأنك حينها ستكون كحاطب ليل!
حتى التنويريون الغربيون، الذين يستلهم منهم “متنورونا” العرب فلسفتهم، لم يفعلوها.. لقد أعادوا الاعتبار لمركزية الإنسان، ليس بسبب ماضيهم، بل بابتعاث الفلسفة اليونانية القديمة! وها هو نيتشه أيضاً، كبير الحداثيين، وقيدومهم، يشدو طأطأة على العادات والتقاليد، يرجع في تأسيس فلسفته عن الحياة وقدسيتها إلى استلهام الميثولوجيا اليونانية، في نموذج ديونيسوس!
بعض التنويريين لا يعجبهم التراث الإسلامي، لا العجب، ولا الصيام في رجب، وكأن مشكلتهم نفسية، ومع الدين نفسه…
أقول بعض التنويريين، وهو تخصيص له ما يبرّره، لأن آخرين منهم ينهجون نهج احترام، ويتعاملون مع التراث بعقلية معرفية، وينقدون ما فيه من عيوب، ويستلهمون ما فيه من عبر!
صحيح أن هناك عائقاً معرفياً يمنعنا من مقاربة تراثنا بمنهج العلم، لا بمنهج التقديس، لكن في المقابل، هناك العائق السيكولوجي، الذي من خلاله يقارب أصحابه التراث، بمنهج التجديف، فيقومون بتصفية حسابات مع الدين لمجرد كونه ديناً، ومع رموزه لمجرد كونهم ينتمون لذلك الدين، وبعضٌ من “متنورينا” من هذه الخانة.. وهؤلاء، في نظري، يحتاجون، لا إلى نزالات معرفية وعلمية، وإنما إلى جلسات مكاشفة صريحة مع الذات، لأن المشكلة تكمن هناك!!
ختامًا، يبقى التنوير مسارًا يتطلب توازنًا بين التقدير للتراث والإبداع في التفكير. يجب أن ننفتح على الحاضر والمستقبل دون أن نفقد جذورنا، لأن الفهم العميق لماضينا هو ما يمكننا من بناء غدٍ أفضل. فبدلاً من التجديف أو التقديس، لنستفد من دروس التاريخ، ونبني حوارًا مثمرًا بين الأجيال، يسهم في رسم معالم حضارة تجمع بين الأصالة والحداثة.