العلم هو الحل: نحو قضاء مغربي أكثر دقة وفعالية
من إعداد وإسهام: الأستاذ عبد العالي المصباحي/ المحامي العام بمحكمة النقض ورئيس رابطة قضاة المغرب
في عالم تتزايد فيه التحديات القانونية والجرائم المعقدة، يبرز دور العلم والتكنولوجيا كأدوات حاسمة في تحقيق العدالة. يسلط هذا المقال، من إعداد وإسهام الأستاذ عبد العالي المصباحي، المحامي العام بمحكمة النقض ورئيس رابطة قضاة المغرب، الضوء على أهمية الاستفادة من التقدم العلمي، لا سيما في مجالات مثل الخبرة الجينية، لتحقيق العدالة الجنائية. يتناول المقال مسألة تأخر المنظومة القانونية المغربية في مواكبة هذه التطورات العلمية، ويناقش كيفية تحقيق التوازن بين احترام النصوص القانونية وبين الاستفادة من الأدلة العلمية المبتكرة في إثبات الجرائم.
كما يطرح الأستاذ المصباحي مجموعة من المقترحات العملية لتطوير القوانين المغربية، وتفعيل آليات البحث والتحري لضمان العدالة وحماية المجتمع. نأمل أن يساهم هذا المقال في فتح نقاش واسع حول أهمية التجديد القانوني بما يتماشى مع التقدم العلمي، وضرورة خلق بيئة قانونية أكثر انفتاحًا على مستجدات العلم، مما يسهم في تعزيز العدالة وحقوق الأفراد في المجتمع.
مقدمة:
تطور مفهوم الشرطة عبر العصور من نظام العسس أو الحرّاس إلى نظام صاحب الشرطة، ثم إلى الشرطة بمفهومها الحالي. جاء هذا التدرج نتيجة لتنوع المهام الموكلة إليها، حيث انتقلت من إقامة الحدود والتعزير إلى تحصيل الجزية والخراج، ثم الحسبة والحراسة الخاصة للوالي أو الأمير، بالإضافة إلى مراقبة الطرقات والتفتيش. في العصر الأموي والفاطمي، أُطلق على صاحب الشرطة لقب “صاحب المدينة” نظرًا لتوسع اختصاصاتها لتشمل معظم المجالات المجتمعية.
كان اختصاص الشرطة في تلك الفترات يرتكز أساسًا على حماية المجتمع من الجرائم والوقاية منها، وهو ما يعرف اليوم بالشرطة الإدارية. كما كانت الشرطة تتولى زجر مرتكبي الجرائم فور وقوعها، سواء بناءً على حكم صادر عن القاضي أو الوالي، أو تلقائيًا في بعض الجرائم التي كانت تستدعي العقاب الفوري. وهذا يشير إلى أن هذه المؤسسة كانت تمتلك نظامًا خاصًا ووسائل منظمة للبحث عن الجرائم وكشف مرتكبيها، مما أدى إلى نشوء وظيفة قائمة بذاتها تُعرف بالشرطة العلمية والتقنية.
تعتبر الشرطة العلمية والتقنية علمًا تطور بفضل الجهود التي بذلها الأفراد المكلفون بالفصل في النزاعات وكشف الجرائم. تمثل هذه الوظيفة تجميع الحقائق العلمية من مجالات متعددة وتوظيفها في البحث بمسرح الجريمة وفي محيط المشتبه بهم. حيث تم توظيف مجموعة من العلوم التي كانت مستقلة، مثل علم الأحياء (بما في ذلك علم الأنسجة والكيمياء الحيوية وعلم النبات وعلم الحشرات وعلم الوراثة وعلم الصيدلة)، وكذلك علوم الرياضيات والطباعة والنقود والاتصالات السلكية واللاسلكية والأضواء الكاشفة، وعلم تحقيق الخطوط وعلم البصمات. جميع هذه العلوم لم تُبتكر خصيصًا للكشف عن الجرائم، لكنها أظهرت علاقتها الوثيقة بتطور البحث العلمي الذي استثمر معرفته في خدمة جهاز الشرطة العلمية والتقنية.
لم تكن هذه التقنيات جديدة في عصرنا الحالي، بل تطورت عبر الأزمنة مستفيدة من فطنة رجال الشرطة والقضاء والولاة الذين كانوا يديرون شؤون المجتمع. ومن الأمثلة التاريخية على ذلك، كان هناك قاضٍ مشهور بذكائه في كشف المجرمين؛ حيث جاءه تاجر وبائع سمن يدعي كل منهما ملكيته لكيس من النقود. أمر القاضي الاثنين بالعودة في اليوم التالي، وترك النقود في وعاء مليء بالماء طوال الليل. وفي الصباح، أعاد المال للتاجر وقرر حبس بائع السمن، مبررًا ذلك بأن آثار السمن كانت ستطفو على الماء لو كانت النقود تعود له. هذه الواقعة تعكس جوهر عمل الشرطة العلمية والتقنية اليوم، التي تستخرج أدلة الإدانة من مسرح الجريمة أو من المشتبه بهم باستخدام العلوم للوصول إلى الحقائق المثبتة.
فالسؤال المطروح هو:
- هل استطاع العلم أن يخدم العدالة؟
- كيف تعامل المشرع مع الأمور التقنية والعلمية؟
- هل القضاء مقتنع بالنتائج العلمية ويعتمدها كوسيلة إثبات؟
- العلم وخدمة العدالة
- لا يمكن إنكار الدور الحيوي الذي يلعبه العلم في خدمة العدالة، حيث أصبح بمثابة السراج المنير الذي يساعد القائمين على القضاء في تحقيق العدالة بمختلف أشكالها. فقد أثبت العلم أنه أداة فعالة في كشف الجرائم وإدانة الجناة، ويمثل العمود الفقري للتجريم والعقاب.
- تُعتبر الدول الرائدة في علم الإجرام، مثل الولايات المتحدة، من أبرز الأمثلة على كيفية تسخير العلم لمكافحة الجريمة وتحقيق العدالة. فقد اعتمدت هذه الدول برامج مثل “Predictive Policing” (برامج التنبؤ بالجريمة) التي تساعد الشرطة على تحديد المناطق التي يُحتمل وقوع الجرائم فيها. كما تستخدم تقنيات حديثة مثل تثبيت مكبرات الصوت في الشوارع والأزقة لرصد الأصوات الناتجة عن إطلاق النار، وهو ما يُعرف بـ “Shot Spotter” (كاشف صوت الرصاص).
- إضافة إلى ذلك، توجد برامج الكاميرات الذكية التي تستطيع تحليل سلوك المارة، مما يساعد في تمييز الأشخاص العاديين عن المتوجسين أو الخائفين بسبب تورطهم في جرائم معينة. كما تساهم تقنية حفظ التراكيب الوراثية، أو ما يُعرف ببنك المعلومات الوراثية، في جمع البصمات الوراثية للأشخاص المتابعين جنائيًا، مما يسهل التعرف على المجرمين من خلال قاعدة بيانات محفوظة مسبقًا.
- كل هذه التقنيات العلمية المتطورة تعكس الأهمية البالغة للعلم في خدمة العدالة، التي تظل دائمًا تسعى إلى الكشف عن الجرائم والوصول إلى مرتكبيها.
المشرع المغربي وتطور العلم
تعرف الساحة القضائية اليوم بكل مكوناتها جدالاً قانونياً حاداً حول مدى اعتماد العلم كوسيلة من وسائل الإثبات القاطعة، أو التقيد الحرفي بالنص القانوني. وهذا الأمر قسّم رجال القانون إلى قسمين، ما بين تيار يساير العلم ويجتهد في إطار “تطبيق القانون لتحقيق العدالة” كغاية نهائية، وآخر ثابت ومستقر يطبق القانون في إطار مبدأ “لا اجتهاد مع النص”. فكلاهما له مبرراته ووسائل إقناعه، ولا أحد ينكر أن كل واحد منهما صائب في أمره، ولكن هذا الاختلاف لا يخدم الأمن القضائي في شيء، ويساهم في صدور أحكام متناقضة واجتهادات قضائية متضاربة، ويعود وبالا على صاحب الحق متى لم ينفعه العلم في إثبات براءته أو استرجاع حقه، أو يدخله في دوامة الإدانة والتبرئة متى انتقل بين هذه الهيئة أو تلك، أو ما بين أصحاب هذا التيار والتيار الآخر.
إذا أخذنا الخبرة الجينية أو خبرة الحمض النووي كوسيلة من وسائل الإثبات والتي تأكد علمياً وبالقطع أن نتائجها تبقى صحيحة مائة بالمائة، نجد المشرع المغربي لا يزال يرفض الأخذ بها إما بصريح التنصيص على ذلك في مواد معينة أو يضعها في خانة السلطة التقديرية للقضاء لتبقى ما بين أخذ أو استبعاد.
في قانون المسطرة المدنية، لم يعرف المشرع المغربي الخبرة واعتبرها في إطار الفصل 55 منه، إجراء من إجراءات تحقيق الدعوى، وهذا تماشياً مع قانون الالتزامات والعقود في فصله 404 الذي لم يدخلها ضمن وسائل الإثبات، حيث اعتبر وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي:
- إقرار الخصم؛
- الحجة الكتابية؛
- شهادة الشهود؛
- القرينة؛
- اليمين والنكول عنها.
دون أن يتحدث عن الخبرة كما فعل المشرع السوري الذي عددها في المادة الأولى من قانون البيّنات وهي: “الأدلة الكتابية والشهادة والقرائن والإقرار واليمين والمعاينة والخبرة”. إلا أن العمل القضائي سار على خلاف ذلك واعتبر الخبرة وسيلة من وسائل الإثبات، إما صراحة كما جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 4963 بتاريخ 29/5/1984، والذي عرفها بأنها: “وسيلة من وسائل الإثبات تملك معها المحكمة سلطة تقديرية لا تخضع فيها لرقابة المجلس الأعلى“. أو بطريقة ضمنية، كما ذهبت إليه محكمة النقض في قرارها عدد 241 الصادر بتاريخ 29 مارس 2016 في الملف المدني عدد 3874/1/3/2015 المنشور بنشرة قرارات محكمة النقض العدد 27، مؤكدة ما استقر عليه المجلس الأعلى، على أن ما جاءت به الخبرة يعد قرينة، والقرينة هي وسيلة من وسائل الإثبات حسب الفصل 404 من ق ل ع.
ومن هنا يمكن أن أخلص للنتيجة التالية: “أن الخبرة إجراء من إجراءات تحقيق الدعوى متى أمر بها، وهي وسيلة إثبات متى أخذ بها”.
التطورات الحديثة في المنظومة القانونية
من المهم أن نلاحظ أن المشرع المغربي، رغم عدم اعتماده صراحة للخبرة كوسيلة إثبات، بدأ يظهر بعض الانفتاح على العلوم الحديثة والتطورات التكنولوجية في مجال الإثبات، مثل استخدام البصمات الجينية في بعض القضايا. هذا الانفتاح يعكس ضرورة تحديث القوانين وتكييفها مع التطورات العلمية لضمان تحقيق العدالة بشكل فعال وسريع.
إن استخدام العلوم الحديثة في مجال العدالة يجب أن يكون مصحوباً بتشريعات دقيقة تنظم كيفية الاعتماد على هذه الأدلة العلمية، وضمان عدم استخدامها بطرق قد تضر بحقوق الأفراد أو تؤدي إلى إدانات خاطئة.
في هذا السياق، يتطلب الأمر من المشرع المغربي التفكير في إعادة النظر في تشريعاته وإدخال تعديلات قانونية تضمن الاستفادة القصوى من العلم، وتحقيق العدالة بطريقة تحمي حقوق الأفراد وتساهم في استقرار الأمن القضائي.
وفي قانون المسطرة الجنائية كذلك لم يعرف المشرع المغربي الخبرة، أسوة بما فعل في باقي القوانين الإجرائية الأخرى، خصوصًا الباب المتعلق بالأبحاث التمهيدية. إلا أننا نجده قد تطرق إليها في ثلاث مراحل وهي:
- الخبرة أثناء مرحلة البحث التمهيدي؛
- الخبرة أمام قاضي التحقيق؛
- ثم الخبرة أثناء المحاكمة.
أشار المشرع للخبرة في سياق البحث التمهيدي في المادة 47 من ق م ج على أنها: “يمكن لوكيل الملك إذا عرضت عليه مسألة تقنية أن يستعين بأهل الخبرة والمعرفة. كما يمكنه أن يأمر بإجراء خبرة لتحديد فصيلة البصمات الجينية للأشخاص المشتبه فيهم…”. ونص في المادة 57 منه: “يجب على ضابط الشرطة القضائية… أن يحافظ على الأدلة وله أن يستعين بأشخاص مؤهلين لذلك. كما يمكنه أن يطلب إجراء خبرات عليها وعلى بقية أدوات الجريمة….”. وأضاف في المادة 64 على أنه: “إذا تعين القيام بمعاينات لا تقبل التأخير، فلضابط الشرطة القضائية أن يستعين بأي شخص مؤهل لذلك، على أن يعطي رأيه بما يمليه عليه شرفه وضميره”. وذكرت المادة 77 من نفس القانون على أنه: “يمكن لممثل النيابة العامة أن ينتقل…. وأن يستعين بأشخاص لهم كفاءة لتحديد ظروف الوفاة، يجوز لممثل النيابة العامة أيضًا أن ينتدب أهل الخبرة للكشف عن أسباب الوفاة”.
ويظهر من خلال هذه المواد أن المشرع استعمل عدة مفاهيم للتعبير عن الخبير، فقال أهل الخبرة والمعرفة، وقال أشخاص مؤهلين، وقال أشخاص لهم كفاءة، لينتهي في الأخير بقول أهل الخبرة، وكلها تعابير تحتمل تفاسير عدة. فكل واحد منا قد يعتبر نفسه من أهل المعرفة أو الكفاءة أو أنه مؤهل لإعطاء رأيه في واقعة معينة، وفي هذا ضرر لنجاعة الأبحاث أو في تحويل مسارها الصحيح أو اندثار الأدلة متى تم اعتماد شخص غير متخصص في ما أمر بإنجازه.
لهذا نجد المشرع المغربي قد تنبأ لهذه الأخطاء وقدم مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، الذي لا يزال موضوع مناقشة بصيغ مختلفة. فنص في المادة 77 على ما يلي: “يمكن لضابط الشرطة القضائية بعد موافقة النيابة العامة انتداب طبيب شرعي… يمكن لممثل النيابة العامة انتداب طبيب شرعي.” أي أنه آمن بمسألة الاختصاص على الأقل في باب تحديد أسباب الوفيات أو تشريح الجثث للقول بانتداب طبيب شرعي مختص في النازلة ومسؤول عما سيأتي في تقريره، بعد إجراء خبرته على جسم الجريمة، مما سيساعد القضاء ومن هم تحت إمرته في الكشف عن الأسباب الحقيقية وتحديد – بناءً على ذلك – من سيثبت تورطه في الفعل الجرمي. الشيء الذي لا زلنا نفتقده في ظل قانون المسطرة الجنائية الحالي.
وقد كرست هذه الوضعية القانونية اجتهادًا قضائيًا لا يعتبر الخبرة المنجزة من طرف الدرك الملكي أو الإدارة العامة للأمن الوطني وثيقة رسمية، رغم أنها صادرة عن جهة أوكل إليها بمقتضى القانون البحث في الجرائم والتثبت من مرتكبيها، وأن ما تحرره من محاضر دون الخبرة يعتبر وثائق رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور. وهذا ما ذهب إليه قرار المجلس الأعلى عدد 645/10 الصادر بتاريخ 22 أبريل 2009 في ملف عدد 25268/6/10/2008 الذي قضى بما يلي: “إن تقرير الخبرة المنجزة من طرف مصلحة الدرك الملكي والإدارة العامة للأمن الوطني، لا يعتبر وثيقة رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، بل هو مجرد رأي تقني مضمن في خبرة قضائية تخضع للسلطة المخولة لقضاة الموضوع في تقييم الحجج وترجيح بعضها على البعض الآخر.”
ففي الوقت الذي نجد فيه أن الشرطة العلمية والتقنية بكل من الإدارة العامة للأمن الوطني والدرك الملكي قد أصبحتا مؤسستين معترف بهما على الصعيد الدولي، لما قدماه من خدمات جليلة ودراسات علمية هادفة بواسطة دكاترة ومهندسين وأصحاب اختصاصات وشواهد عليا، تؤكد تمرسهم وكفاءتهم واقتدارهم، نجد المشرع المغربي لم يخول لهما الصفة الضبطية بعد، ولا يدخل موظفيها ضمن زمرة ضباط الشرطة القضائية، حتى تصبح تقارير المؤسستين بمثابة وثائق رسمية لا يطعن فيها إلا بالزور، أي أن حجيتها قوية ولا يمكن دحضها. وهذا من شأنه تعطيل العلم في خدمة العدالة، وفتح باب الإفلات من العقاب وتكريس مبادئ المدارس التقليدية في مكافحة الجريمة، عوض اعتماد العلم كحجة قاطعة في إثبات الجرائم والكشف عن مرتكبيها.
حيث نجد المادة 289 من ق م ج تقضي بما يلي: “لا يعتد بالمحاضر والتقارير التي يحررها ضباط وأعوان الشرطة القضائية … إلا إذا كانت صحيحة الشكل وضمن فيها محررها وهو يمارس مهام وظيفته ما عاينه أو تلقاه شخصيا في مجال اختصاصه.” وأضافت المادة 291 من نفس القانون: “لا يعتبر ما عدا ذلك من المحاضر أو التقارير إلا مجرد معلومات.” ومنها مثلاً «الخبرة الجينية».
فأي تناقض هذا في منطق المشرع؟ فقد يحضر عناصر الشرطة العلمية والتقنية إلى مسرح الجريمة رفقة ضباط الشرطة القضائية، فيقوم الجميع بجمع الأدلة ورفع البصمات وحجز الوسائل المستعملة في الجريمة، ويحرر بذلك محضر الانتقال والمعاينة في إطار حالة التلبس، فتضاف هذه الوثيقة لطيات المحضر الذي يكسب قوته الثبوتية خلال كل مراحل التقاضي. وحينما تنقل هذه الوسائل والمحجوزات للمختبر لتحليلها ودراستها والخروج بخبرة تفكك رموز الجريمة، نجد المشرع يستبعدها ويعتبرها مجرد معلومة تحتمل الصدق والكذب.
وعلى ذكر الخبرة الجينية وبعد ما وصلت إليه من تفوق وإثبات قاطع وبرهان علمي في تحليل الشفرة الجينية، تكاد تكون نسبة الخطأ فيها منعدمة، إذ تنسب إمكانية الخطأ إلى القائمين على العملية لا إلى العينات، مما قد يلحق العينات من تلويث أثناء التحليل. ولم يقف العلم عند هذا الحد بل ظهرت نظرية جديدة إسمها علم التخليق أو علم التخلق المتعاقب أو ما يسمى بالفرنسية l’épigénétique، الذي يعنى بدراسة آليات التحكم الزماني والمكاني في نشاط الجينات، خلال تطور الكائنات الحية. إذ أثبت أن هناك شبه سلة مهملات يتخلى فيها الجسم عن حوالي 85% من المكونات الأساسية للخلايا، ولكن يحتفظ دائما وتلقائيا بنسبة 15% المتعلقة بالصفات الوراثية، وهذا يؤكد مرة أخرى أن الخبرة الجينية علم لا يساوره الشك.
فهل واكب المشرع المغربي هذه الطفرة العلمية في قوانينه؟
بالرجوع لقانون المسطرة الجنائية المغربي والذي عمّر لأكثر من ستين سنة، نجده بعيدا كل البعد عن هذه الثورة العلمية. ونستشف ذلك من خلال المواد الأولية التي تنظم إجراءات البحث التمهيدي أو البحث في حالة التلبس وإجراء المعاينات، والتي أعطت لوكيل الملك من خلال الفصل 47 و77 إمكانية الاستعانة بأهل الخبرة أو إمكانية إجراء خبرة متى عرضت عليه مسألة تقنية، وكذلك الشأن بالنسبة لضابط الشرطة القضائية الذي أعطته المادة 57 و64 إمكانية الاستعانة بأهل الخبرة أو إمكانية طلب إجراء خبرة على أدوات الجريمة والأشياء التي تم العثور عليها.
وفي هذا تقصير واضح في استبعاد العلم، فرجال القضاء ورجال الشرطة ليست لهم خبرة بالأمور الطبية والكيميائية والبيولوجية التي من شأنها الكشف عن الجريمة، ومع ذلك استعمل المشرع عبارة الإمكان بدل الوجوب، يعني أن كلا من ممثل النيابة العامة وضابط الشرطة القضائية حر ما بين اللجوء إلى الخبرة من عدمها. ومتى تمت مساءلته عن غض الطرف عن هذا الإجراء الجازم سيتذرع بمقتضيات المادة التي أعطته الإمكان بدل الوجوب.
ولم يقف أمر الإمكان في حدود الضابطة القضائية والنيابة العامة، بل تجاوزهما المشرع إلى القضاء، فبالرجوع إلى المادة 194 من ق م ج نجدها تنص على أنه: “يمكن لكل هيئة من هيئات التحقيق أو الحكم كلما عرضت مسألة تقنية، أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا وإما بطلب من النيابة العامة أو من الأطراف.”
استبعاد التطور العلمي في القانون الجنائي المغربي
أما القانون الجنائي المغربي فإنه لم يحد عن سابقه في استبعاد التطور العلمي الذي يخدم العدالة، فحصر وسائل الإثبات، على سبيل المثال، في جريمتي الفساد والخيانة الزوجية في إطار الفصل 493 في ما يلي: “الجرائم المعاقب عليها في الفصلين 490 و491 لا تثبت إلا بناء على محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي.”
ومع ذلك، لم يدخل الخبرة الجينية ضمن وسائل الإثبات، مما انعكس سلبا على العمل القضائي. حيث قضت محكمة النقض بعدم قبول الخبرة الجينية في جريمة الخيانة الزوجية، في قرارها عدد 1024 بتاريخ 26/10/2011، ملف 9526/6/3 2011 الذي جاء فيه: “لا تثبت جريمة الخيانة الزوجية إلا بإحدى وسائل الإثبات المحددة حصرا في الفصل 493 من ق ج وهي: محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة تلبس أو اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي، وبالتالي لا تكوّن المحكمة الزجرية قناعتها في ثبوت الجريمة على وسيلة إثبات أخرى غيرها حتى ولو كانت خبرة جينية قاطعة في موضوع النسب.”
وفي هذا تناقض صارخ، فصوت الظنين يعتبر وسيلة إثبات في جريمة الخيانة الزوجية متى اعترف بعظمة لسانه، ولا عبرة باعتراف باقي جسده متى أقرت خبرة جينية أنه هو الفاعل. فالإنسان يتكون من جسم وعقل، جزء ملموس وجزء محسوس، مادة وروح، قول وفعل. يبطش بيديه ويتكلم بلسانه، فإذا اعترف بلسانه بأنه ارتكب الفعل، أخذنا باعترافه طبقا لمقتضيات الفصل 493 من ق ج.
لكن إذا اعترف جسمه بأنه يحمل نفس البصمة الجينية لثمرة الخيانة أو الفساد، أبعدنا هذا الاعتراف العلمي القاطع. فماذا نقول عن ظنين أخرس عجز لسانه عن النطق، ونطقت جيناته الوراثية بالحقيقة؟
تقييد القاضي بالترسانة القانونية
بما أن القاضي ملزم بتطبيق القانون والتقيد بحرفية المواد وعدم الاجتهاد مع وجود النص وعدم التوسع في تفسير القانون، فإن هذه الترسانة القانونية هي التي تلازمه خلال مساره المهني، فتُلجم قناعاته في تحقيق العدالة. هذه الحالة تجعله مكتوف الأيدي في الأخذ بما جدّ من العلوم التي تخدم القضاء وتساعد على كشف الحقائق للوصول إلى أحكام تحقق العدالة في إطار تطبيق القانون بطبيعة الحال.
حالة الولد المزداد بعد الطلاق
وفي إطار التطبيق الحرفي للنصوص وتجاهل الحقيقة العلمية، نجد المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) بجميع غرفه اعتبر أن الولد المزداد داخل أجل سنة من تاريخ الطلاق هو ابن للمطلق، رغم إدلائه بخبرة تثبت عدم قابليته للإخصاب. حيث كان بإمكانه اللجوء إلى مسطرة اللّعان، وذلك في قراره عدد 658 بتاريخ 30 ديسمبر 2000.
تساؤلات حول تجاهل العلم
السؤال المطروح هنا هو: لماذا نغيّب الجانب العلمي ونجمّد سيل الاجتهاد؟ فإذا كان اللّعان قد شرّع في أوانه لانعدام الحجة، فإن الأمر قد حسم أمام هذه الدقة العلمية في إثبات النسب بواسطة الخبرة الجينية.
موقف المجلس الفقهي الإسلامي
حتى أن المجلس الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، ما بين 5-10 /1/ 2002، قضى بأنه لا مانع شرعًا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص، طبقا للحديث النبوي: “ادْرَؤوا الحُدُودَ بالشُّبُهاتِ”.
هذا يؤكد على أهمية الاعتماد على العلم في تحقيق العدالة والأمن للمجتمع، مما يؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهو مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
قرار الغرفة الجنائية بمحكمة النقض
من جهة ثانية، فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض ذهبت في قرارها عدد 131 الصادر بتاريخ 2014/1/29، ملف جنحي 2013/3/6/8691 إلى ما يلي:
(يمكنك إكمال ما تريد أن تذكره في هذا الجزء بناءً على تفاصيل قرار الغرفة الجنائية المذكورة.)
اغتصاب – عنصر عدم الرضا – خبرة جينية – نطاقها في الإثبات
لئن كان عنصر عدم الرضا يشكل الركن المادي المكون لجناية الاغتصاب، فإن إلغاء المحكمة للقرار الابتدائي القاضي بالبراءة وحكمها من جديد بالإدانة استنادًا إلى الخبرة الجينية التي أفادت أن الطفل من صلب الفاعل، خلافًا لإنكاره المتواتر، يجعل ما انتهت إليه الخبرة مثبتًا للعلاقة الجنسية، ولا يعتبر دليلاً أو حجة على استعمال العنف لجبر المشتكية على ممارسة العلاقة الجنسية معها.
موقف المحكمة من الأدلة العلمية
خلاصة القول، أن المحكمة عندما واجهت دليلًا علميًا قاطعًا على تورط الفاعل في جناية الاغتصاب، اعتبرت أن ذلك دليلاً على وجود علاقة جنسية وليس اغتصابًا. مع العلم أنه كان عليها أن تدينه من أجل الاغتصاب بدل الفساد، لأنه أنكر أية علاقة بالضحية لولا نتيجة الخبرة الجينية التي أثبتت أن الطفل هو من صلبه.
القاعدة الفقهية المعنية
في هذه الحالة، كان لابد هنا من إعمال القاعدة الفقهية التي تقول: “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه منه، ومن تناقضت أقواله بطلت حجته، واليقين لا يزول بالشك.”
ضرورة إعادة النظر في القوانين
لذا، ينبغي علينا إعادة النظر في هذه القوانين التي تجاوزها الركب العلمي ولم تعد تساير المجتمع في تطلعاته. يجب أن نقتدي بعمل الدول التي قطعت أشواطًا مهمة في مجال الكشف عن الجريمة والمجرمين، من خلال إعمال الطرق العلمية الحديثة والمتطورة وتسخير العلم في خدمة البشرية.
مقترحات علمية وعملية
هذا الأمر يدفعنا إلى وضع مقترحات علمية وعملية للوصول إلى هذا المبتغى، والتي يمكن أن نجملها في ما يلي:
- تحديث التشريعات: مراجعة وتحديث القوانين الجنائية المغربية لتشمل الأدلة العلمية، بما في ذلك الخبرة الجينية، كوسيلة إثبات رئيسية في قضايا الاغتصاب.
- تعزيز القدرات التقنية: دعم وتطوير مؤسسات الشرطة العلمية والتقنية لتكون قادرة على إجراء الفحوصات العلمية الحديثة بشكل فعال وموثوق.
- تدريب القضاة: تنظيم دورات تدريبية للقضاة والنيابة العامة حول كيفية التعامل مع الأدلة العلمية وتفسيرها بشكل سليم في القضايا الجنائية.
- توعية المجتمع: تعزيز الوعي القانوني والعلمي في المجتمع حول أهمية الأدلة العلمية في تحقيق العدالة، ودور الخبرة الجينية في إثبات العلاقات الجنسية.
- إنشاء مختبرات متخصصة: إنشاء مختبرات متخصصة في تحليل البصمة الوراثية وتطوير أدوات البحث الجنائي بما يتماشى مع المعايير الدولية
مقترحات عملية لتطوير النظام القضائي المغربي
- تعديل النصوص القانونية: إجراء تعديلات على النصوص القانونية بما يتلاءم مع تطور العلوم وضرورة إدماج الأدلة العلمية في الإجراءات الجنائية.
- تجاوز العيوب الشكلية: العمل على تجاوز العيوب الشكلية التي لا تؤثر على جوهر القضية، مما يسهل الوصول إلى العدالة.
- توحيد الاجتهاد: توحيد الاجتهاد القضائي على مستوى محكمة النقض وإلزام المحاكم الدنيا بالاقتداء به كأرضية للنظر في القضايا.
- إلزامية الخبرة: جعل الخبرة العلمية مسألة وجوبية في التحري والبحث، خاصة في القضايا الحساسة مثل الاغتصاب.
- حضور الخبير: ضرورة حضور الخبير لشرح تقريره والدفاع عنه أمام المحكمة لضمان وضوح الأدلة العلمية.
- تمثيل النيابة العامة: ضرورة حضور ممثل النيابة العامة في مسرح الجريمة لتعزيز الفهم السليم للوقائع.
- إنشاء بنك للبصمة الجينية: إنشاء بنك للبصمة الجينية لتخزين المعلومات المتعلقة بالمشتبه فيهم والمجرمين، مما يسهل التحقيقات المستقبلية.
- إجبار المشتكى به على الخبرة: فرض الخضوع للخبرة الجينية على المشتكى به حتى في حال اعتراضه، لضمان تحقيق العدالة.
- معاقبة المشتكي في حالة سوء النية: إدخال مواد قانونية تعاقب المشتكي في حال ثبوت سوء نيته في الاتهام أو تقديم ادعاءات كاذبة.
- رفع البصمة الجينية عند إنشاء البطاقة الوطنية: إلزام المواطنين برفع بصمتهم الجينية عند إصدار البطاقة الوطنية لتعزيز قاعدة البيانات الجنائية.
- حصر الخبرة الجينية في المؤسسات العمومية: جعل الخبرة الجينية حكراً على مؤسسات عمومية لضمان الحفاظ على حرمة الجسد وسرية المعلومات.
- تبادل المعلومات بين المختبرات: إلزام المختبرات العمومية بتبادل المعلومات والأرشيف لضبط المنظومة وزيادة كفاءتها.
- تدعيم الخبرة بصورة فوتوغرافية: تدعيم تقارير الخبرة بصورة فوتوغرافية لصاحبها لدرء أي لبس أو التباس حول مصدر الأدلة.
- تعميم الشرطة التقنية والعلمية: تعميم وحدات الشرطة التقنية والعلمية في جميع مراكز الأمن في إطار الجهوية لتعزيز القدرة على التحري والتحقيق.
- الصفة الضبطية للموظفين: منح الصفة الضبطية لكل موظفي الشرطة العلمية والتقنية لضمان تطبيق القانون بشكل فعال.
- الحرص أثناء الخبرة: الحرص على اتخاذ الاحتياطات اللازمة أثناء إجراء الخبرة لتفادي عوامل التلوث والأخطاء البشرية.
- الارتقاء بتقرير الخبرة: اعتبار تقرير الخبرة وثيقة لا يمكن الطعن فيها إلا بالزور، مما يضمن مصداقية الأدلة العلمية.
- الأمور العلمية كمسألة نظام عام: جعل الأمور العلمية من النظام العام التي تثار تلقائيًا حتى من طرف المحكمة، لضمان تطبيق العدالة.
- إنشاء شركات لتنظيف مسرح الجريمة: خلق شركات متخصصة في تنظيف مسرح الجريمة لجمع ما تبقى من وسائل الإثبات وضمان عدم ضياع الأدلة.
خلاصة
تتطلب تحقيق العدالة الجنائية في المغرب تحديث القوانين وتفعيل الأساليب العلمية الحديثة. من خلال تنفيذ هذه المقترحات، يمكن تعزيز فعالية النظام القضائي وضمان حماية حقوق الضحايا والمشتبه فيهم بشكل متوازن.