اقتصادمجتمع

رحلة الخوصصة: من بيع الكنوز المدفونة إلى إهدار الثروات الطائلة

م-ص

تبدأ القصة في عالم الخوصصة، ذلك العالم الذي يمكن أن يصفه البعض بأنه “منطقة الأمل المستقبلي”، بينما يراه آخرون بأنه “فيلم رعب واقعي”. فما هي الخوصصة بالضبط؟ باختصار، هي عبارة عن “إجراء رائع” حيث تقرر الحكومة، بسبب ضغوطات مالية أو سياسية أو ربما تحت تأثير نوبة مزاجية غير محسوبة، أن تُخرج قطاعاً معيناً من يدها وتمنحه لشخص آخر، ليتحكم فيه كما يشاء. يبدو الأمر كمن يبيع كنزًا دفينًا تم اكتشافه في الحديقة الخلفية لمنزل قديم، ولكن مع الوعد بأن هذا الكنز سيتحول قريبًا إلى ثروة هائلة، ولكن بدلاً من ذلك، نجد أن الدولة تبيع “الكنز” وهي تعرف تماماً مداخيله وقيمته العالية جداً. في حين يُفترض أن يكون هذا الكنز عبارة عن مجموعة من القطع المعدنية العتيقة التي قد تبدو غير ذات قيمة، فإن الحقيقة هي أن القيمة الحقيقية لهذا الكنز تكمن في المداخيل الطائلة جدا التي يمكن أن تحققه، لكن الدولة تختار التخلص منه بطرق قد تكون أكثر إرباكاً من مجرد بيع كنز غير ذي قيمة.

لنبدأ بشركة “سامير”، تلك الأيقونة في عالم الخوصصة المغربية. حيث فاز أحد المستثمرين بصفقة الشراء بعد أن قدم مبلغاً أقل من سعر وجبة غداء فاخرة. ربما كان الشخص المشتري يظن أن الاستثمار في الشركة سيكون أفضل من الاستثمار في الأسهم أو العملات الرقمية، ولكنه وجد نفسه في النهاية أمام مشكلة أكبر من توقعاته. فبدلاً من تحويل الشركة إلى “فرص عمل واعدة”، تحول الأمر إلى “شركة تحتاج إلى دعم حكومي عاجل”. من هنا بدأت رحلة إفراغ الشركة من محتوياتها وتحويلها إلى مجرد طيف من الذكريات، حتى أنها لم تجد أي سائل تنظيف ينقذها من ذلك الانهيار. بعبارة أخرى، أصبحنا أمام مشهد يشبه إهداء صندوق مليء بأحجار قديمة، موهومين بأن هذه الأحجار ستكون قادرة على صنع عجائب في المستقبل.

ولم يكتفِ المستثمر بالتسبب في توقيف المصفاة، بل تطور الأمر إلى المطالبة بمبالغ ضخمة من الدولة المغربية تصل إلى مليارات الدولارات، وهي مبالغ تعادل ميزانيات بعض الدول الصغيرة. هذا الموقف يجعلنا نتساءل عن مدى جدوى خوصصة الأصول، وعن مدى تأثيرها على الاقتصاد الوطني والشعب، حيث يبدو أن القصة أصبحت أكثر تعقيداً من مجرد صفقة فاشلة.

وبالانتقال إلى “ليدك”، لدينا حالة نموذجية لأحد أبرز مشاريع الخوصصة التي انتهت بشكل درامي. فبفضل مكالمة هاتفية بسيطة من فرنسا، تمكنت هذه الشركة من الاستحواذ على “لاراد” بصفقة لم تساو حتى قيمة تعبئة لتر واحد من الوقود في سيارة موديل 1916. لكن، وعلى عكس ما قد يُعتقد، لم تفلس “ليدك”، بل العكس هو الصحيح: الآن تُصر “ليدك” على الحصول على مبلغ ضخم مقابل انسحابها من القطاعن لأن العقدة التي كبلنا بها عنقنا تستمر إلى غاية 2030. من الواضح أن الشركة لم تكتفِ بربح الصفقة الرابحة فحسب، بل أصبحت أيضاً في موقع يُجبر الدولة على دفع مبالغ ضخمة للتخلص منها. في الواقع، يبدو وكأن “ليدك” قد اكتشفت طريقة جديدة للتفاوض، وهي “طلب مبالغ منفوخة كتعويض عن الرحيل”. وبالتالي، أصبحت الدولة مضطرة لدفع هذا المبلغ الكبير كجزء من الاتفاق، في انتظار رحيل غير مأسوف عليه.

لكن، ليس لدينا هنا النهاية، بل هناك استمرار. نخشى أن يأتي يوم يُخوصص فيه كل شيء، بما في ذلك البشر أنفسهم. تصور لو أصبحت أنت، أنا، وأصدقاؤنا، جميعنا سلعة في سوق الخوصصة. قد يصبح موظفونا، الذين كانوا في السابق يعتنون بنا ويقدمون لنا خدماتهم، مجرد عناصر خوصصة يمكن نقلها وتبديلها كما يشاء المستثمر. سيكون لدينا يوم يبيع فيه المستثمر جميع موظفيه بأسعار مخفضة لأننا ببساطة “مخوصصون” بالفعل. نتحول إلى قطع غيار، أو حتى ربما نعرض في المزادات العلنية: “سعر خاص جداً لمستخدم مُخَصَّص، فلدينا هنا فرصة ذهبية للحصول على مستخدم لا يتطلب صيانة”.

وفي ختام هذه الرحلة الساخرة، نصل إلى النتيجة البديهية: عندما تُخوصص الأشياء، قد يتبادر إلى الأذهان أن كل شيء يمكن أن يُخوصص، حتى نحن أنفسنا. في المستقبل، قد نرى “مزادات إنسانية” حيث يتم عرض الأفراد كسلع خوصصة، وقد يتحول المجتمع إلى سوق مفتوح حيث تُباع القدرات البشرية في “صفقات خوصصة”.

وفي ختام هذه الرحلة الساخرة، نودعكم بتمني أن نكون قادرين على الحفاظ على إنسانيتنا، وربما يومًا ما نجد طريقة نعيد بها رسم البسمة على وجوهنا، بعيداً عن سيناريوهات الخوصصة المدمرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى