التسامح المفقود: هل يمكن أن تُدرّس الأخلاق في المدارس لبناء مجتمع متماسك؟
م-ص
التسامح قيمة إنسانية راقية تسهم في بناء مجتمع يسوده السلم والتعايش، إلا أن هذه القيمة تبدو في تراجع ملحوظ في مجتمعنا المغربي، مما يطرح تساؤلات ملحة حول أسباب غيابها وأثر ذلك على مختلف جوانب الحياة اليومية. ففي الشوارع، وعلى الطرقات، نشهد خلافات وشجارات بين السائقين، يتبادلون فيها السب والقذف لأتفه الأسباب. وفي بيئات العمل، تتصاعد التوترات بين الزملاء لتتحول إلى نزاعات وصراعات لا مبرر لها، تعكر صفو العمل وتؤثر سلبًا على الإنتاجية.
إن غياب ثقافة التسامح يجعل من المجتمع ساحة للاحتكاكات والمشاحنات، حيث تغيب روح التسامح والتجاوز عن الأخطاء، ويحل محلها الانتقام والعداء. هذا الواقع يدفعنا للتساؤل: لماذا نعاني من نقص هذه الثقافة المهمة؟ وكيف يمكن أن نغرس قيم التسامح في نفوس الأجيال القادمة، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من شخصياتهم وهم على مقاعد الدراسة؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب النظر بعمق في أسباب هذه الظاهرة وتبني خطوات عملية لتعزيز ثقافة التسامح، بدءًا من المناهج الدراسية التي ينبغي أن تُعنى بغرس هذه القيم الإنسانية النبيلة، مرورًا بدور الأسرة في تنشئة الأبناء على احترام الآخر، وصولًا إلى المجتمع بكل مؤسساته. فهل يمكن أن تكون المدرسة المكان الأمثل لزرع بذور التسامح، وتشكيل جيل جديد يؤمن بهذه القيمة ويجسدها في حياته اليومية؟
- التسامح في الحياة اليومية:
لنأخذ مثالًا من حركة المرور، حيث يُعتبر الطريق بمثابة مسرح تتجلى فيه سلوكيات الناس بشكل واضح. في كل يوم، نشهد مواقف يتخاصم فيها السائقون، يتبادلون السب والقذف لأتفه الأسباب. قد يكون أحدهم أخطأ في التجاوز، أو لم يحترم إشارة المرور، مما يثير غضب الآخرين. في هذه المواقف، يغيب التسامح الذي كان يمكن أن يُحول الموقف من شجار إلى تبادل كلمات الاعتذار والاعتراف بالخطأ.
لا ينحصر غياب التسامح في الشارع فقط، بل يمتد إلى بيئات العمل. فكم من زميلين في مكتب واحد يدخلان في نزاعات وتنافسات لا مبرر لها، تتصاعد إلى حد أن يصبحا كأنهما خصمان في ساحة معركة. أسباب هذه النزاعات غالبًا ما تكون بسبب الأنانية، أو الغيرة، أو عدم القدرة على تفهم الآخر وتقبله، مما يؤدي إلى خلق بيئة عمل متوترة وغير صحية.
- أمثلة حية:
يحكي لنا أحد الأصدقاء عن موقف مر به، وهو من الأشخاص المعروفين بأخلاقهم العالية وتسامحهم. تعرض لإساءة بالغة من شخص آخر في الماضي، وعندما دارت الأيام، سقط بين يديه الشخص الظالم،وهو في موقع قوة بينما الشخص الآخر أصبح بحاجة إليه. كان بإمكانه الانتقام والرد على تلك الإساءة، لكنه اختار أن يُظهر تسامحه وتسامى فوق مشاعر الانتقام. درّس ذلك الشخص درسًا في التسامح والأخلاق، حيث مما لاشك فيه أنه أثر فيه وأجبره على مراجعة نفسه وأوراقه.
هذا المثال يعكس القوة الحقيقية للتسامح، فالتسامح ليس علامة ضعف، بل هو دليل على نضج ووعي أخلاقي عالٍ. عندما نسامح، نحن لا نغفر للآخر فقط، بل نحرر أنفسنا من عبء الكراهية والضغينة.
- أسباب نقص ثقافة التسامح:
- التربية والنشأة: في كثير من الأحيان، ينشأ الأطفال في بيئات تفتقر إلى ثقافة التسامح. إذا كان الطفل يشاهد والديه أو أفراد عائلته يتصرفون بعنف أو بعدم تسامح، فمن الطبيعي أن يتبنى هذا السلوك. لذا، من الضروري أن تُدرج هذه القيمة في المناهج الدراسية، كما اقترحتنا، لتعزيز الوعي بأهمية التسامح منذ الصغر.
- التأثيرات الاجتماعية: في مجتمع يعاني من ضغوط اقتصادية واجتماعية كبيرة، يصبح الناس أكثر توترًا وانغلاقًا على ذواتهم، مما يجعلهم أقل استعدادًا للتسامح وتقبل الآخرين. كما أن التعصب العرقي أو الديني أو الإيديولوجي يزيد من حدة هذه المشكلة.
- غياب القدوة: كثيرًا ما يفتقر المجتمع إلى نماذج تُحتذى بها في التسامح، سواء في الحياة السياسية أو الاجتماعية. إذا لم يجد الأفراد قادة ومثقفين يروجون لقيم التسامح ويمارسونها، فمن الصعب أن يتبنوا هذه القيمة في حياتهم اليومية.
- ضرورة إدراج التسامح في المناهج الدراسية:
على الوزير شكيب بنموسى أن يأخذ هذه المسألة على محمل الجد، ويُدرج ثقافة التسامح في المقررات الدراسية للأطفال منذ الصغر. يمكن أن تتضمن المناهج قصصًا تُظهر كيف يمكن للتسامح أن يحل الخلافات، وأن يُحول العداء إلى صداقة، وأن يُساهم في بناء مجتمع متسامح ومترابط. كما يُمكن تنظيم ورشات عمل ومسرحيات مدرسية تُركز على هذه القيمة.
- خاتمة:
ثقافة التسامح ليست مجرد قيمة اجتماعية يجب أن نتحلى بها، بل هي حاجة ضرورية لبناء مجتمع سليم. إذا أردنا أن نرى مجتمعًا يتسم بالسلم والأمان، يجب أن نبدأ من الأساس، وهو تربية الناشئة على احترام الآخر وتقبل الاختلاف والتسامح في المواقف اليومية. إن تعزيز هذه الثقافة يتطلب جهودًا متضافرة من الأسرة، والمدرسة، والمجتمع ككل، حتى نصبح جميعًا سفراء لهذه القيمة الإنسانية النبيلة.