مجتمع

كوميسارية مولاي الشريف: حيث كان الجلاد ينام وعيناه مفتوحتان

دابا ماروك

قد تكون محاولتا الانقلاب الفاشلتان ضد النظام في المغرب محط اهتمام المؤرخين، لكنهما تبقى مجرد محطات عابرة في بحر من القمع الذي عرفه المغاربة خلال سنوات الرصاص. وإذا كان لا بد من اختيار حقبة سوداء دخلت الذاكرة الجماعية كشبح لا يغادر العقول، فإن السبعينيات وبداية الثمانينات كانت بلا شك المرحلة الأكثر رعبًا، حيث صار الوطن قفصًا كبيرًا، يختنق فيه الهواء، وتتحول الجدران إلى آذان، والوجوه إلى أقنعة تخفي أكثر مما تُظهر.

كوميسارية مولاي الشريف: جحيم في قلب البيضاء

إذا كانت مدن العالم تتفاخر بمعالمها السياحية، فإن الدار البيضاء في تلك الحقبة حملت في قلبها معلمًا من نوع آخر: كوميسارية مولاي الشريف، المكان الذي لم يكن مجرد مقر أمني، بل مصنع لإنتاج الألم بأحدث التقنيات المتاحة في ذلك الزمن. هنا، لم يكن الدخول إليه يستدعي ارتكاب جريمة، بل كان يكفي أن تهمس بكلمة غير محببة في جلسة خاصة، أو أن تقع في مرمى شكام متحمس يبحث عن ترقية، أو حتى أن يكون لديك صديق يطرح الأسئلة الخاطئة في المكان الخاطئ.

لم يكن مجرد مركز اعتقال، بل كان مختبرًا يوميًا للابتكار في أساليب التعذيب. في هذا المكان، لم يكن هناك فرق بين الجسد والعقل، فالجلادون كانوا يحرصون على أن ينهار المعتقل من الداخل قبل أن ينهار جسديًا. وكان هؤلاء الجلادون يتفننون في توظيف كل شيء: الكهرباء، الماء، الصفع، الجلد، الإذلال، وحتى الإهانة النفسية التي تجعل المرء يشك في كل شيء، حتى في ذاته.

الشكامة والعملاء: كل شيء مراقب، حتى الصمت

كان عدد الشكامة يضاهي عدد المناضلين، وربما أكثر. كان المخبرون كالأشباح، ينسلون بين المعتقلين، ينقلون الكلام، يختلقون القصص، ويزرعون الشك بين الرفاق. لم يكن المعتقلون وحدهم تحت المراقبة، بل حتى الجلاد نفسه لم يكن في مأمن. كل شيء يمكن أن يُستخدم ضدك: نكتة عابرة، شتيمة أطلقتها في لحظة غضب، أو حتى صمتك الطويل الذي قد يبدو مريبًا في نظر من اعتادوا على استخراج الاعترافات بالقوة.

العملاء كانوا يُدسّون وسط المعتقلين، ليس فقط لمعرفة ما يقولونه، بل لإضعافهم من الداخل، لإفقادهم الثقة في بعضهم البعض. وهكذا، كان الخوف يمتد مثل وباء، يحاصر كل من وطأت قدماه عتبة كوميسارية مولاي الشريف.

الجلادون: التعذيب لم يكن وظيفة، بل عقيدة

بعد أن انتهت تلك الحقبة، وتم تفريق الجلادين على مختلف المصالح الأمنية، لم يكن من الصعب التعرف عليهم. كانت وجوههم تحمل ندوبًا غير مرئية، آثار معاناة من نوع آخر. هل كان ذلك تأنيب ضمير؟ أم مجرد إرهاق نفسي لشخص مارس العنف أكثر مما يستطيع احتماله؟

كان بعضهم يسير في الشوارع بأعين زائغة، كمن لا يثق في العالم حوله. كانوا يعرفون أنهم أصبحوا مكشوفين ومنبوذين، وأن من كانوا يعذبونهم ذات يوم قد يكونون الآن جيرانهم أو زملاءهم أو حتى رؤسائهم.

الإنصاف والمصالحة: اعتراف متأخر… لكن هل يكفي؟

عندما جاءت هيئة الإنصاف والمصالحة، بدا الأمر أشبه بمحاولة طمس الماضي بعبارات دبلوماسية. كان اعتراف الدولة رسميًا بجرائمها ضد مواطنيها لحظة فارقة في تاريخ المغرب، لكنه ظل ناقصًا. ماذا عن الجلادين الذين أفلتوا من العقاب؟ ماذا عن الضحايا الذين الذين ضاعت أرواحهم، وأجسادهم، ولم تعوض سنوات عمرهم التي ضاعت بين الجدران الرطبة والليالي الطويلة من التعذيب؟

هل المصالحة تعني أن ننسى؟ أم تعني أن نتذكر دون أن نطلب العدالة؟ وهل يكفي الاعتراف بالذنب لتجاوز الجريمة؟

لقد خرج المغرب من تلك الحقبة، لكنه لم يتجاوزها بالكامل. ما زالت آثارها واضحة في الخوف الذي يسكن بعض الأصوات، في الرقابة الذاتية التي يمارسها البعض دون أن يدركوا، في الحذر الذي يسبق كل كلمة تُقال. سنوات الرصاص قد تكون انتهت رسميًا، لكن رصاصها لا يزال عالقًا في الذاكرة، يتردد صداه في قصص لم تُروَ بعد، وأسماء لم يُنصفها التاريخ.

                                                    

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى