مجتمع

“واطحن للشعب!”.. المطاحن بين الدعم والصراصير!

دابا ماروك

في بلد يتغنى بتنميته المستدامة ويزهو بمشاريعه الطموحة، يشهد قطاع المطاحن في المغرب ازدهارًا غريبًا، كأنما اكتشف المستثمرون كنزًا دفينًا بين أكياس الدقيق وأبخرة القمح المطحون. فمنذ فضائح التسعينيات، حيث انكشفت أوراق الدعم السخي لهذا المجال، أصبحت المطاحن تتكاثر بشكل لافت، مثل الفطر بعد المطر، بل وأكثر! لكن السؤال الحقيقي الذي يطرحه المتابعون بفضول: هل هي مطاحن لصنع الدقيق.. أم مطاحن لطحن أعصاب المواطنين؟

المطاحن.. حيث الاستثمار الذكي لا يحتاج إلى ذكاء!

ليس سرًا أن قطاع المطاحن أحد أكثر المجالات “سحرًا” في المغرب، ليس لجودة منتجاته ولا لدوره في الأمن الغذائي، بل لأنه يختصر معادلة المال السهل: دعم حكومي سخي + رقابة رخوة + سوق استهلاكية واسعة = أرباح طائلة دون مجهود يذكر. فمن يغامر بمصنع يتطلب سنوات لاسترداد الاستثمار، بينما يمكنه فتح مطحنة والاستفادة من الدعم دون الحاجة حتى إلى إنتاج دقيق يليق بالبشر؟

ويكفي القيام بجولة في بعض الأفران الشعبية أو حتى بعض المحلات الكبرى لرؤية “تحف فنية” من الطحين، حيث اللون باهت، والرائحة غريبة، والجودة في خبر كان. أما إذا تساءلت عن الفوارق بين الدقيق الممتاز ودقيق “واطحن للشعب”، فستكتشف أنها لا تتجاوز العلبة والملصق، لأن المحتوى غالبًا واحد!

عندما تتعايش الصراصير مع الطحين!

أما الحديث عن النظافة، فهو يدخل في باب “الحكايات الخرافية”، حيث يمكن بسهولة العثور على بعض  المطاحن تشتغل وسط بيئة تصلح لتصوير أفلام الرعب، لا لإنتاج مادة غذائية أساسية. الطواحين تدور، والقمح يطحن، لكن الضمير؟ لا أثر له في هذه المعادلة. ومن عجائب هذا القطاع أن بعض المراقبين، وهم من المفترض أن يكونوا “فرسان الجودة”، يتحولون إلى هواة إغماض العيون مقابل ثمن، ليصبحوا بذلك مدافعين عن حق الصراصير في العيش وسط أكياس الدقيق!

والطريف أن أصحاب المطاحن يعرفون مسبقًا أن الرقابة “مطاطة”، وأن الأهم ليس نظافة المكان بل نظافة العلاقات مع الجهات المسؤولة، تلك العلاقات التي تفتح الأبواب أمام الدعم السخي والتسهيلات المالية، بينما الفلاحون، الذين ينتظرون قبض ثمن محاصيلهم، يتحلون بصبر أيوب، لأنهم الحلقة الأضعف في هذه اللعبة.

“واطحن للشعب!”.. شعار المرحلة؟

المفارقة أن المواطن العادي، الذي يدفع من جيبه ثمن هذه المنظومة المختلة، لا يملك سوى الاستسلام للأمر الواقع. فالخبز المصنوع من طحين مجهول المصدر، الممزوج أحيانًا بما لا يخطر على البال، بات جزءًا من حياته اليومية. بل إن بعض المخابز تتفنن في تحويل هذه المادة إلى منتوج لا يصلح حتى للماشية، لكنها تعرف جيدًا أن الزبون سيعود، لأنه ببساطة لا يملك خيارات أخرى.

وهكذا، يصبح الطحين في المغرب ليس مجرد مكون غذائي، بل عنوانًا كبيرًا لمنظومة كاملة من العبث، حيث تُطحن جيوب المواطنين قبل القمح، وتُستنزف أموال الدعم قبل أن تصل إلى من يستحقها. أما الجودة، فهي آخر ما يفكر فيه المستثمرون، الذين يبدو أنهم قرروا تطبيق الشعار الشهير: “واطحن للشعب!” حرفيًا!

وفي انتظار معجزة تعيد لهذا القطاع بعضًا من النزاهة، يبقى المواطن المغربي هو الضحية الدائمة، يدفع ثمن الخبز المغشوش، والرقابة الغائبة، والجشع الذي لا حدود له.. فإلى متى؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى