
سعاد صابر.. حين تنحني شجرة الفن شامخة
دابا ماروك
في عالم يضج بالأضواء والضجيج، هناك نجوم يختارون الانسحاب في هدوء، ليس عن ضعف أو قلة حيلة، بل احترامًا لمسيرة نحتوها بعرق الجبين، ووفاءً لصورة أرادوا لها أن تظل ناصعة في أذهان محبيهم. سعاد صابر، “أم المغاربة” التي رافقتنا لسنوات طويلة بأدوارها القوية والعفوية، قررت أن تسدل الستار على مشوارها الفني، بعد أكثر من ثلاثين عامًا من العطاء، تاركة وراءها إرثًا لا يُمحى في ذاكرة التلفزيون المغربي.
قرار الاعتزال.. حين تصير الكرامة أولوية
ليس من السهل على فنانة بحجم سعاد صابر أن تتخذ قرار الاعتزال، لكن يبدو أن الظروف لم تترك لها خيارًا آخر. في تصريحها الأخير، لم تخفِ صابر خيبة أملها مما آل إليه الوسط الفني، حيث أصبح كل شيء محكومًا بمنطق السوق، لا بقيمة الفن، وأضحت الأدوار تُمنح وفق حسابات ضيقة، لا تراعي تجربة الممثلين أو قيمتهم الفنية.
رفضت سعاد صابر أن تكون مجرد رقم في قائمة المشاركين، أو أن تتنازل عن قناعاتها مقابل أدوار لا تليق بمسيرتها. لم يكن الاعتزال عندها هروبًا، بل كان وقفة عزّ، احترامًا لماضيها ولمكانتها في قلوب المغاربة، الذين طالما رأوا فيها صورة الأم الحنون، المرأة القوية، والإنسانة التي تحمل هموم مجتمعها على الشاشة كما في الواقع.
محبة الناس.. الثروة الحقيقية
رغم ابتعادها عن الشاشة منذ سنوات، لم تغب سعاد صابر عن وجدان الجمهور المغربي، الذي ظل يحمل لها كل الاحترام والتقدير. فعندما تسير في الشارع أو تحضر أي مناسبة، تجد العيون تلمع برؤيتها، والابتسامات ترتسم بحضورها. قليلون هم الفنانون الذين يحظون بهذا الحب الصادق، والأقل منهم من يعرف كيف يحافظ عليه، كما فعلت هي، حين اختارت أن تنسحب قبل أن يُجبرها الزمن أو الظروف على ذلك.
لكن مع هذا الحب، عانت سعاد صابر من سلاح قاتل يوجهه البعض إلى كل فنان يحترم نفسه: الإشاعات. كم مرة قرأنا عن وفاتها؟ كم مرة أُشيع أنها تعاني المرض والفقر؟ ومع كل مرة، كانت تخرج لتنفي، لكن الغصة في القلب تبقى. لماذا أصبح التشهير والافتراء هواية البعض؟ لماذا يُستغل اسم فنانة قدمت عمرها للفن من أجل زيادة نسب المشاهدة أو كسب تفاعل زائف على مواقع التواصل؟
رحيل بلا وداع.. لكنه ليس غيابًا
قد يكون قرار سعاد صابر باعتزالها النهائي بمثابة خسارة كبيرة للساحة الفنية المغربية، لكن الحقيقة أنها لم ترحل عنا، بل اختارت أن تبقى في المكان الذي يليق بها: في ذاكرة المغاربة وقلوبهم. فقد كانت جزءًا من طفولتنا، من أمسياتنا العائلية أمام التلفزيون، من ضحكاتنا ودموعنا.
اليوم، وهي تطوي هذه الصفحة، لا نملك إلا أن نقول: شكرًا سعاد صابر، شكرًا لأنك علمتنا أن الفن ليس مجرد أضواء وكاميرات، بل رسالة وأمانة.. شكرًا لأنك فضّلت كرامتك على الشهرة، واختاريت أن تغادري بشموخ، تمامًا كما عشتِ شامخة طوال مسيرتك.
سيظل وجهك حاضرًا في وجداننا، وستبقى أدوارك نبراسًا لأجيال قادمة، تبحث عن قدوة وسط زحمة الفن الاستهلاكي. وكما قلتِ في تصريحك الأخير: لا شيء يساوي محبة الناس.. وها نحن نؤكد لك: محبتك عندنا أكبر من كل الأدوار التي جسدتها، لأنك لم تكوني فقط ممثلة، بل كنتِ صوتًا يعبر عن قلوب المغاربة جميعًا.