مجتمع

تفشي الفساد في الجماعات الترابية: من الخوف إلى التجرؤ والنهب

دابا ماروك

مقدمة                                 

في الزمن الذي لم تكن فيه رقابة المجلس الأعلى للحسابات أو وزارة الداخلية بالمستوى الحالي، كان رؤساء الجماعات الترابية ومن يدورون في فلكهم يتحاشون الوقوع في قضايا فساد علنية، بسبب ما يمكن أن تثيره من استنكار شعبي وحتى خوف من المحاسبة الأخلاقية. أما اليوم، فقد تغيرت المعادلة جذريًا. على الرغم من تشديد الرقابة وتعزيز آليات المحاسبة، أصبح الهدف الرئيسي لكثير من المسؤولين في الجماعات الترابية هو تحقيق أكبر مكاسب شخصية خلال فترة ولايتهم، متجاوزين بذلك الحدود الأخلاقية والقانونية.

تشديد الرقابة وتطور آليات الفساد

مع دخول المجلس الأعلى للحسابات على الخط، وتصاعد دور وزارة الداخلية في مراقبة أداء الجماعات الترابية، ارتفع سقف التوقعات بشأن الحد من الفساد. غير أن النتائج على الأرض تعكس مشهدًا معقدًا. بدلًا من الخوف من المحاسبة، لجأ بعض المسؤولين إلى طرق أكثر تطورًا وابتكارًا للالتفاف على القوانين واستغلال الموارد العامة. من أبرز هذه الطرق:

  1. تأسيس شركات بأسماء مقربين: يلجأ العديد من رؤساء الجماعات إلى إنشاء شركات بأسماء أفراد عائلاتهم أو أشخاص مقربين منهم. تُستخدم هذه الشركات كواجهة لعقد صفقات مشبوهة، تتعلق بمشاريع التنمية المحلية، أو تقديم خدمات بأسعار مبالغ فيها، مع ضمان أن الأرباح النهائية تصب في جيوبهم.
  2. الابتزاز ورفض تأشيرات الحوالات: يلجأ بعض المسؤولين إلى تعطيل المشاريع أو تأخير صرف مستحقات المقاولين والشركات إلا بعد الحصول على “عمولات” أو نسب مالية معينة، مما يضيف عبئًا ماليًا وإداريًا على المؤسسات والشركات التي تتعامل مع الجماعات.
  3. حالات التنافي الصارخة: تم رصد العديد من حالات التنافي الواضحة، حيث يتولى بعض الرؤساء مسؤوليات أو أنشطة تجارية تتعارض بشكل مباشر مع مناصبهم. على سبيل المثال، نجد رؤساء يملكون شركات تستفيد من صفقات جماعاتهم، في خرق فاضح لمبادئ الشفافية.

أسباب تفشي الفساد رغم الرقابة

  • التحايل على القوانين: غالبًا ما تكون النصوص القانونية غير دقيقة أو تفتقر إلى آليات تنفيذ صارمة، ما يترك مساحة للتلاعب والاستغلال.
  • ضعف الردع: على الرغم من تقارير المجلس الأعلى للحسابات، فإن قلة من المتورطين يُحالون على القضاء، وحتى من يُحاسبون، فإن العقوبات في بعض الأحيان لا تكون رادعة بما يكفي ويشفي غليل المواطنين.
  • الثقافة المجتمعية: غياب ثقافة المساءلة في بعض المناطق يعزز شعور المسؤولين بالإفلات من العقاب. في كثير من الأحيان، يُنظر إلى من يتورطون في الفساد على أنهم “ناجحون” أو “أذكياء” بدلاً من اعتبارهم مجرمين.
  • التسييس: التدخل السياسي قد يعيق عملية المحاسبة، حيث يتم حماية بعض الرؤساء بناءً على انتماءاتهم السياسية أو ولاءاتهم.

انعكاسات الفساد على التنمية المحلية

يؤدي الفساد في الجماعات الترابية إلى نتائج كارثية على مستوى التنمية:

  1. تعطيل المشاريع التنموية: بسبب سوء تدبير الموارد أو توجيهها لمصالح شخصية، تتأخر العديد من المشاريع الحيوية أو تُنفذ بجودة منخفضة.
  2. زيادة الفقر والتهميش: تفقد الجماعات الترابية القدرة على توفير الخدمات الأساسية لسكانها، مثل الطرق، الماء، والكهرباء، مما يساهم في تفاقم الفقر.
  3. تراجع الثقة في المؤسسات: يشعر المواطنون بالإحباط نتيجة عدم وجود محاسبة فعلية للمفسدين، مما يزيد من فجوة الثقة بين المواطنين والمؤسسات.

حلول مقترحة لمكافحة الفساد

  1. تعزيز استقلالية القضاء: يجب منح القضاء صلاحيات أوسع للتحقيق في قضايا الفساد دون تدخلات سياسية.
  2. تشديد العقوبات: ينبغي أن تكون العقوبات أكثر صرامة لردع المتورطين، بما في ذلك مصادرة الممتلكات وإعادة الأموال المنهوبة.
  3. رقابة شعبية: تشجيع دور المجتمع المدني والصحافة الاستقصائية في الكشف عن قضايا الفساد ومتابعتها.
  4. شفافية أكبر: فرض نشر تقارير دورية حول الصفقات والمشاريع التي تنفذها الجماعات الترابية، بما يتيح للمواطنين متابعة الأداء.
  5. تفعيل الآليات التكنولوجية: استخدام التكنولوجيا لتتبع الصفقات والمصاريف، مما يقلل من احتمالات التلاعب.

خاتمة

إن الفساد في الجماعات الترابية ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو جزء من أزمة هيكلية تتطلب حلولًا شاملة وجذرية. الرقابة وحدها ليست كافية؛ المطلوب هو تعزيز الشفافية، تفعيل المحاسبة، ونشر ثقافة النزاهة. بدون ذلك، ستظل الجماعات الترابية ساحة مفتوحة لاستغلال النفوذ على حساب التنمية المحلية ورفاهية المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى