فن وثقافة

الفقر الثقافي في مواجهة الفقر المادي: أزمة مجتمع أم مرآة للسياسات؟

دابا ماروك

في وقت يبدو فيه الفقر المادي هو العنوان الأبرز لمعاناة العديد من المجتمعات، يطلّ الفقر الثقافي برأسه كأزمة صامتة لا تقل خطورة، لكنها غالبًا ما تُهمّش في النقاش العام. وإذا كان الفقر المادي يقاس بغياب الموارد الأساسية مثل الغذاء والمأوى والصحة، فإن الفقر الثقافي هو ذلك الفراغ الذي يسيطر على العقول والوجدان، ليتركها خاوية من المعارف، الأخلاق، والقدرة على الحوار الراقي.

لكن، ما العلاقة بين الفقرين؟ هل الفقر المادي هو الذي يؤدي إلى الفقر الثقافي، أم أن الأخير هو السبب الحقيقي لما نشهده من تراجع في المستويات الفكرية والاجتماعية؟

دائرة مفرغة من التدهور                                         

تبدأ المشكلة حين يصبح الفقر الثقافي مبررًا للفقر المادي، والعكس صحيح. الفرد الذي يُحرم من التعليم الجيد، والذي يجد نفسه أسيرًا لنظام تعليمي متهالك، ينمو دون أدوات لفهم العالم من حوله، مما يحد من فرصه في كسر قيود الفقر المادي. ومن جهة أخرى، فإن من يعيشون في أوضاع اقتصادية متردية غالبًا ما يضعون البقاء على قيد الحياة كأولوية قصوى، على حساب القراءة، الفن، أو الانخراط في نقاشات فكرية.

هذا الواقع يخلق دائرة مغلقة، حيث يساهم الفقر المادي في إنتاج أجيال تعاني من فقر ثقافي، في حين يغذي الفقر الثقافي السياسات والاقتصادات التي تُبقي على الفقر المادي دون حلول جذرية.

النقاش العام ومستوى الانحطاط

لو نظرنا إلى النقاشات التي تُدار على مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى في الفضاءات العامة، لوجدنا أن مستوى الحوار قد أصبح انعكاسًا واضحًا لهذا الفقر الثقافي. يتم اللجوء إلى الشتائم، السخرية المبتذلة، والتراشق اللفظي بدلًا من تقديم الحجج والمنطق. النقاشات التي يُفترض أن تكون منصة لبناء الوعي وتبادل الأفكار، أصبحت معارك عبثية لا تُثمر سوى المزيد من التوتر والانقسام.

هذا الانحطاط في مستوى الحوار لا ينبع فقط من جهل الأطراف المتحاورة، بل أيضًا من بيئة ثقافية تُهمّش الفكر النقدي. لا كتب تُقرأ، ولا نقاشات تُعقد، ولا برامج ثقافية تُبثّ؛ فقط محتوى ترفيهي سريع يكرّس القشور بدلًا من الجوهر.

دور السياسات والاقتصاد في تعميق الأزمة

لا يمكن إغفال دور السياسات الحكومية والأنظمة الاقتصادية في تكريس هذا الواقع. عندما يتم تخصيص ميزانيات هزيلة لقطاع التعليم، وغياب الرؤية الثقافية، وتجاهل أهمية الإعلام الثقافي، فإن النتيجة تكون مجتمعًا يعاني من جهل مزدوج: جهل بماضيه وتراثه، وجهل بحاضره وتحدياته.

في المغرب، على سبيل المثال، نجد أن الكثير من الشباب لا يقرأون إلا نادرًا، بسبب غلاء الكتب وضعف التوزيع، لكن الأمر لا يتوقف عند القدرة الشرائية فقط. هناك أيضًا غياب لبرامج توعوية تضع القراءة والفكر في صلب اهتمامات المجتمع.

الحلول الممكنة

لا يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة دون الاعتراف بأن الفقر الثقافي هو مشكلة جوهرية تستدعي حلولًا عميقة وشاملة.

  1. إصلاح التعليم: التعليم ليس مجرد أداة لإكساب المهارات، بل هو وسيلة لإنتاج مواطن واعٍ بقضايا مجتمعه. يجب أن يركز النظام التعليمي على بناء الفكر النقدي وتعليم القيم الإنسانية.
  2. إعادة الاعتبار للثقافة: يجب أن تصبح الثقافة أولوية في السياسات الحكومية. دعم الفنون، المسرح، الأدب، والسينما ليس رفاهية، بل هو استثمار في العقل الجماعي للمجتمع.
  3. تشجيع الحوار الراقي: يجب خلق منصات للنقاش الفكري الراقي، سواء في الإعلام أو في الفضاءات العامة. هذه المنصات يجب أن تكون شاملة، تدعو الجميع للمشاركة والتعلم.
  4. تقريب الثقافة من الجميع: دعم المكتبات العامة، تقليل أسعار الكتب، وتنظيم فعاليات ثقافية مجانية يمكن أن يُساهم في نشر الوعي الثقافي بين فئات المجتمع كافة.

الخاتمة

الفقر الثقافي ليس أقل خطرًا من الفقر المادي، بل إنه غالبًا ما يكون السبب الجذري لمعظم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي نعاني منها. مجتمع بلا ثقافة هو مجتمع بلا روح، بلا رؤية، وبلا مستقبل. لذلك، فإن مواجهة الفقر الثقافي تتطلب إرادة سياسية قوية، ووعيًا جماعيًا بأهمية الثقافة في بناء مجتمع أكثر عدلًا وتوازنًا.

في النهاية، يبقى السؤال: هل نحن مستعدون للاستثمار في العقول كما نستثمر في البنى التحتية، أم أن الفقر الثقافي سيظل مجرد قضية ثانوية في مجتمع يغرق في أولويات مادية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى