
تغير أصول التربية والعلاقة بين الأجيال: مدخل إلى فهم التحولات في الأسرة المغربية
دابا ماروك
منذ الأزل، كانت الأسرة هي الحاضن الأول للأجيال الجديدة، مصنعا للقيم والمبادئ، ومرجعية للهوية الثقافية والدينية. ولكن مع مرور الزمن، بدأت تنشأ تحولات جذرية في دور الأسرة المغربية، وخاصة في ميدان التربية، بسبب تأثيرات اجتماعية، ثقافية، وتكنولوجية عديدة. كانت الأسرة المغربية في الماضي ذات بنية منغلقة على نفسها إلى حد ما، معترفة في أغلب الأحيان بسلطة الآباء والأجداد كمرجعية حاكمة، حيث كان للفرد في داخل الأسرة أدوار محددة وفقًا لسنّه وموقعه الاجتماعي. لكن مع انفتاح المغرب على العوالم الأخرى، وتزايد التأثيرات الخارجية على مكوناتها الثقافية والاجتماعية، أصبحنا أمام تغيير جوهري في الأدوار داخل الأسرة، بما في ذلك تغيّر جذري في دور الأجداد، وهو ما يعكس التحولات العميقة التي طرأت على المجتمع.
من الأجداد إلى التكنولوجيا: التحول من التراث إلى الحداثة
في الماضي، كانت التربية تأخذ طابعًا جماعيًا، حيث كان الأجداد هم الركيزة الأساسية في نقل القيم الثقافية والدينية للأحفاد. كانوا بمثابة مرشدين روحانيين، يحملون عبء المسؤولية في نقل العادات والتقاليد عبر الأجيال. لكن ومع تطور وسائل الإعلام وانتشار الفضائيات في التسعينات، ثم ظهور الإنترنت في العقدين الأخيرين، تغيرت آليات نقل المعرفة والموروث الثقافي. أصبحت السينما، والأدب، والوسائط الرقمية قنوات أساسية تتنقل من خلالها الأفكار والمفاهيم بين الأجيال، وأصبح للأبناء والمراهقين منفذ أكبر إلى ثقافات متعددة ومتنوعة قد تتناقض أحيانًا مع القيم الأسرية والتقاليد التي زرعها الأجداد.
إن تأثير السينما والمسلسلات التي تعرض قصصًا عن قضايا الحب، والمشاكل الاجتماعية، والتحولات الثقافية كان له أثر بالغ في تغيير صورة الأسرة، وأصبح الشباب يقيمون معايير جديدة للسعادة والنجاح تتجاوز في كثير من الأحيان ما تربوا عليه من تعاليم الأسرة. كما أصبح ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وإنستغرام، يشكل واقعًا آخر يتبنى الأفراد فيه شخصيات متعددة ويختبرون قيمًا وأفكارًا تتنافى مع معايير الأجداد.
الأجداد: بين النبع التقليدي والتحديات الحديثة
في هذا السياق، أصبح الأجداد في المغرب يعانون من تحدي فهم كيفية التفاعل مع هذا التحول العميق. فالأجداد الذين كانوا يمارسون دور الحارس التقليدي للثقافة والتراث، وجدوا أنفسهم في مواجهة جيل يعيش في واقع متعدد الأبعاد، يتفاعل مع مجتمعات رقمية، ويعتمد على مصادر تعليمية بعيدة عن سلطة الأسرة التقليدية. هذا التحدي لم يقتصر على الجانب الثقافي فقط، بل تعداه ليشمل العلاقة العاطفية بين الأجيال.
ما يثير الإشكال هنا هو أن أدوار الأجداد في التربية باتت تتقلص بشكل ملحوظ، فلا يجد العديد من الشباب اليوم من يجلس معهم لسماع الحكايات القديمة، ولا من يتوجهون إليهم للحصول على نصائح تتعلق بقيم الحياة أو الاختيارات الشخصية. صار للأجداد اليوم دور محدود في تقديم الحكمة التقليدية، وأصبحوا يعيشون في عالم يتسارع بشكل يفوق قدراتهم على التكيف معه.
التربية الحديثة: الصراع بين الهوية والانفتاح على الجديد
من جهة أخرى، لا يمكننا إغفال أن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الأسرة المغربية قد أضافت تعقيدات جديدة على مكونات التربية. فالمتغيرات التي طرأت على سوق العمل، والانفتاح على الاقتصاد العالمي، والضغط المعيشي، جعل الآباء أكثر انشغالًا بالبحث عن سبل لتأمين لقمة العيش لأسرهم، وهو ما جعلهم يبتعدون في كثير من الأحيان عن الدور التقليدي في التربية، ويلجأون إلى وسائل التعليم الحديثة كبديل. وبالتالي، أصبحت المدارس والمؤسسات التعليمية هي الساحة الرئيسية لتشكيل مفاهيم الأطفال والشباب، وتقلص دور الأسرة إلى حد كبير في تشكيل الشخصية.
العلاقة بين الأجيال: تواصل أم انقطاع؟
الأمر الذي يميز الأسرة المغربية اليوم عن الماضي هو الانفصال النفسي والتقني بين الأجيال. هذا الانفصال لا يتعلق فقط بالاختلافات الثقافية أو التربوية، بل أصبح يشمل أيضًا جوانب عاطفية، حيث أصبح الأبناء يشعرون بالحاجة إلى الانفصال عن الجيل الأكبر من أجل بناء هويتهم الخاصة. لكن في المقابل، تظل الأسرة هي الحاضن الأوحد عند حدوث الأزمات، حيث يرجع الأبناء إلى الأسرة في لحظات الأزمات أو التحديات الكبرى في الحياة. هذا التناقض بين الحاجة إلى الاستقلالية والاعتماد على الأسرة في الأوقات الصعبة يعكس حالة من التشويش الذي يعيشه العديد من الشباب في محاولة التوفيق بين موروثهم الثقافي وبين رغبتهم في التحديث والانفتاح.
التربية اليوم: من الاستبداد إلى الشراكة
إن الأهم في ظل هذا التحول هو البحث عن نموذج تربية مشترك بين الأجيال، نموذج يعترف بوجود الفجوة بين الأجداد والأحفاد، ولكنه يحاول بناء جسر من الحوار والتفاهم بين الأجيال المختلفة. يمكن للجيل القديم أن يقدم توازناً بين قيم الماضي وحكمة التجربة، بينما يمكن للجيل الجديد أن يقدم قدرة أكبر على التكيف مع التحولات المعاصرة. هذا التعاون بين الأجيال يمكن أن يكون مفتاحًا لتكوين أسرة مغربية متكاملة، تأخذ من الماضي ما يعزز هويتها، وتفتح عيونها على المستقبل دون أن تفقد ارتباطها بجذورها الثقافية.
الخاتمة
إن تغييرات التربية في المغرب، سواء على مستوى الأصول الثقافية أو على مستوى العلاقة بين الأجيال، هي عملية مستمرة ومعقدة. إن التحدي الأكبر يكمن في كيفية بناء توازن بين الحفاظ على التراث والهوية وبين الانفتاح على الجديد، وتقديم جيل متوازن قادر على التعامل مع تحديات العصر الحديث، بينما يظل مرتبطًا بجذوره. هذا التوازن هو الذي سيحدد إلى حد كبير كيفية تطور الأسرة المغربية في المستقبل، وكيفية تربية الأجيال القادمة لتكون قادرة على مواجهة تحديات عصرها.