مجتمع

كم من مفتش يجب أن يفتش مفتشًا آخر؟

دابا ماروك

في دهاليز الإدارات التي تشبه متاهة لا نهائية، تبرز ظاهرة مثيرة للتأمل: كيف لمهنة مثل التفتيش، التي تهدف في جوهرها إلى كشف العيوب وتصحيح المسارات، أن تتحول إلى “لعبة مرايا” حيث يراقب كل مفتش زميله وكأننا أمام مشهد من فيلم هيتشكوكي؟ ليس السؤال عن الكفاءة أو النزاهة فقط، بل عن فلسفة هذا التسلسل: هل يمكن أن تصبح عملية التفتيش بحد ذاتها هدفًا يتفوق على الغاية التي وُجدت من أجلها؟

لنتأمل قليلًا. المفتش في ذاته شخصية مثيرة للجدل: هو القاضي والخصم، المراقب والمراقَب، الرجل الذي يحمل دفاتر الملاحظات الثقيلة وهو يعلم أن هناك دائمًا من ينتظر أن يضعه تحت المجهر. لكن، ماذا يحدث عندما يصبح المفتش موضوعًا للتفتيش؟ أليس هذا أشبه بتفكيك ساعة ميكانيكية ومحاولة فهم من يحرك عقاربها؟

إذا كنت تعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى آلة حاسبة أو خبير رياضيات، فأنت مخطئ تمامًا. إنها أشبه بسؤال فلسفي وجودي يختبر أعماق البيروقراطية والتفتيش المفرط الذي نعاني منه في كثير من المجالات.

المشهد الأول: المفتش المثالي

تخيل أن هناك مفتشًا مثاليًا يُعرف بصلابته، ويعمل بإتقان ودقة متناهية. فجأة، يُطلب منه أن يفتش زميلًا مفتشًا. هنا تبدأ التساؤلات:

  • هل سيستخدم المفتش أدوات تفتيشه المعتادة، أم سيحتاج إلى أدوات جديدة بحكم أن الشخص المُفتَّش ليس مجرد موظف عادي بل مفتش هو الآخر؟
  • هل سيكون التفتيش نزيهًا، أم سيخضع لقواعد “تبادل المصالح المفتشية”، حيث “افحصني اليوم وأفحصك غدًا”؟

المشهد الثاني: المفتش الذي يحتاج إلى تفتيش

في مكانٍ آخر، يوجد مفتشٌ يشتهر بـ”قلة الهمة” والتساهل في أداء وظيفته. يتم استدعاء مفتش آخر لتفتيشه. وهنا تظهر الكوميديا السوداء:

  • المفتش الثاني قد يكون أكثر تساهلًا منه، فتتحول العملية إلى مسرحية هزلية من التفتيش الوهمي.
  • أو ربما يكون المفتش الثاني صارمًا للغاية، فيبدأ في تفتيش كل شيء بما في ذلك دفتر ملاحظات المفتش الأول وهاتفه الشخصي وربما حتى حقيبته!

المعضلة الكبرى: من يفتش المفتش الثالث؟

لو افترضنا جدلًا أن المفتش الثاني كان نزيهًا وكفؤًا ونجح في تفتيش المفتش الأول، سيبقى السؤال المحير: من يفتش المفتش الثاني؟ وهل سنحتاج إلى مفتش ثالث؟ بل ربما رابع؟ إلى أن ينتهي بنا المطاف بتشكيل “جيش التفتيش الوطني”!

الحلول المقترحة

لكي لا يتحول الأمر إلى حلقة مفرغة من التفتيش اللانهائي، ربما نحتاج إلى:

  1. تحديد عدد التفتيشات المسموح بها: مفتش واحد يفتش مفتشًا آخر، وينتهي الأمر.
  2. تفتيش ذاتي: يُطلب من المفتش أن “يتفقد نفسه” ويُعِدّ تقريرًا عن أدائه. بالطبع، قد يؤدي ذلك إلى تقارير من نوع “كل شيء على ما يرام”، لكن لا بأس، على الأقل أن نوفر وقت المفتشين الآخرين.
  3. إلغاء التفتيش البيني: لماذا لا نُعين طرفًا مستقلًا للتفتيش؟ ربما روبوتات الذكاء الاصطناعي؟ فهي لا تعرف المجاملات ولا ترضى بدعوة لتناول وجبة عشاء.

خلاصة الأمر

يبدو أن تفتيش المفتشين لبعضهم البعض يعكس صورة ساخرة عن مدى غرقنا في البيروقراطية التي تعاني من فقدان الثقة. بدلًا من هذا المسلسل التفتيشي الذي لا ينتهي، ربما يجب أن نُركز على تأهيل المفتشين وتحفيزهم وتشجيعهم على النزاهة، لأن النظام الذي يحتاج إلى مفتشٍ يفتش مفتشًا آخر لا يحتاج إلا إلى “تفتيش ذاته”!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى