العلاقات الإنسانية في المغرب: بين الاحتقار والتقدير والفهم المختلف للذكاء
دابا ماروك
من بين أهم القيم التي تحدد طبيعة العلاقات الإنسانية في أي مجتمع، يأتي احترام الآخر وتقديره بما هو عليه. لكن في واقعنا المغربي، تتجلى معضلة حقيقية في شكلها اليومي على مستوى العلاقات الاجتماعية؛ حيث نجد أن بعض الأفراد يسعون جاهدين للاحتقار والتحقير من ذكاء الآخرين، كأن هذا الأخير حكراً عليهم. إنها ظاهرة قد تكون أكثر تعقيدًا مما يتصور البعض، فهي تلامس العديد من الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية التي تؤثر على سلوكيات الأفراد وتفاعلاتهم داخل المجتمع. فما هو السبب وراء هذه النزعة؟ وهل يمكننا أن نعتبرها جزءًا من ثقافة عامة تشبع بها المجتمع المغربي أم أن هناك عوامل أخرى وراء هذا السلوك؟
الذكاء: فطري أم مكتسب؟
لطالما كان الذكاء موضوعًا غنيًا بالنقاشات في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع. هل هو فطري أم مكتسب؟ في الحقيقة، الذكاء يتألف من جوانب متعددة؛ فهناك الذكاء الفطري الذي يرتبط بالقدرة العقلية والتفكير النقدي والإبداعي، وهناك أيضًا الذكاء المكتسب الذي يعتمد على التجارب والمعرفة التي يكتسبها الفرد على مدار حياته. وعلى الرغم من أن البعض يرى أن الذكاء هو مجرد سمة فطرية أو ميزة وراثية، إلا أن الكثير من الدراسات تؤكد أن التجارب الحياتية والمواقف التي يواجهها الإنسان تساهم بشكل كبير في تشكيل تفكيره وأسلوب معالجته للمشاكل.
ومع ذلك، يظل هناك قطاع كبير من المجتمع المغربي، كما هو الحال في بعض المجتمعات الأخرى، يربط الذكاء بالقدرة على التحصيل العلمي فقط، معتبرًا أن الفهم السليم للأمور لا يتجاوز ما يتم تعلمه في الكتب أو الجامعات. هؤلاء قد يرفضون فكرة أن الذكاء ليس محصورًا فقط في نطاق التحصيل الأكاديمي، بل يمتد ليشمل ما يكتسبه الإنسان من تجاربه الحياتية، وهو ما يخلق تباينًا في الفهم الاجتماعي حول “الذكاء”.
إشكالية الاحتقار الاجتماعي للأفراد
بعض الأفراد، خاصة أولئك الذين وصلوا إلى مراكز المسؤولية أو السلطة، يميلون إلى الاعتقاد بأن نجاحاتهم الفردية تعود بالكامل إلى ذكائهم وجهودهم الشخصية، متجاهلين أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية وحتى التربوية قد لعبت دورًا حاسمًا في تمهيد الطريق أمامهم. هذا التصور يُكرس لديهم شعورًا بالتفوق على الآخرين، مما يدفعهم أحيانًا إلى التقليل من شأن وجهات النظر المختلفة أو الاستهانة بالمواقف التي لا تتفق مع رؤيتهم الشخصية.
الاحتقار للآخرين لا يقتصر فقط على الذكاء أو المعرفة، بل يمتد ليشمل الطبقات الاجتماعية والفئات المهنية. فمثلاً، نجد أن بعض المسؤولين أو أصحاب المناصب الرفيعة في المجتمع قد يشعرون بالتفوق على البسطاء أو الفئات المهمشة التي بالكاد تجد فرصًا للتعليم والتعلم. هذا الفهم الضيق للذكاء لا يأخذ بعين الاعتبار التنوع الثقافي والتجارب الحياتية التي تشكل في مجموعها الفهم الأوسع للأمور.
الغبن الاجتماعي: كيف يعاني “البلداء” من نظرة المجتمع؟
السمة الأكثر تأثيرًا في هذا السياق هي أن بعض الأشخاص، رغم وصولهم إلى مناصب مهمة، لا يزالون يعانون من حالة نفسية تسمى “الغبن الاجتماعي”. يشعرون بالتفوق على غيرهم، لكن في أعماقهم، يدركون أن تواجدهم في هذه المناصب ليس بالضرورة دليلًا على ذكائهم الفائق. وفي الواقع، يمكن أن يكون هذا الصراع الداخلي هو السبب وراء تصرفاتهم المستبدة أو متعالية على الآخرين.
البعض منهم قد يظل غير مدرك لضعف معرفته الحقيقية بسبب العزلة الاجتماعية التي يحيط نفسه بها، وهو ما يعزز فكرة “البلادة” في نظر الآخرين. هؤلاء الأفراد لا يستطيعون تقدير التنوع الفكري الذي يثري الحياة الاجتماعية، وبالتالي، يتجهون نحو تصغير قيمة كل من لا يتفق مع وجهات نظرهم. هذا التفاوت في تقدير الذكاء يؤثر على العلاقات بين الأفراد ويعطل التواصل الفعّال في المجتمع.
الفهم الاجتماعي للذكاء: كيف نعيد النظر؟
مواجهة هذا الإشكال تتطلب منا إعادة النظر في المفهوم الاجتماعي للذكاء. كيف نحدد الذكاء في المجتمع؟ هل هو محصور في المعارف الأكاديمية أم في القدرة على التأقلم والتفاعل مع مختلف الحالات الحياتية؟ في المجتمع المغربي، يحتاج الأمر إلى تغيير جذري في الطريقة التي يتم بها تقييم الأفراد. لابد من الاعتراف أن الذكاء ليس محصورًا في فئة معينة أو طبقة اجتماعية؛ بل هو جزء من كل فرد، ويمكن لكل شخص أن يبدع ويتميز في مجاله الخاص.
المجتمع المغربي بحاجة إلى ثقافة تقوم على الاحتفاء بالاختلاف والتنوع الفكري. ينبغي أن نتجاوز الأفكار النمطية التي تربط الذكاء بالتحصيل العلمي فقط، ونؤمن بأن التجارب الشخصية وتعلم الإنسان من حياته اليومية هي جزء لا يتجزأ من هذا الكل الذي نسميه “الذكاء”.
خاتمة: تحديات المجتمع المغربي في تقدير الذكاء
في الختام، يكمن التحدي الأكبر في كيفية تبني المجتمع المغربي لمفهوم أوسع وأكثر شمولية للذكاء. لا يمكننا أن نستمر في تحقير الآخرين بناءً على معايير ضيقة وضارة. يجب أن نعترف بأن الذكاء ليس ملكًا لشخص دون آخر، بل هو منتج من تجارب حياتية وفكرية متعددة، وأن كل شخص يحمل قدرًا من الذكاء الذي يجب أن يُحترم ويُقدّر. في نهاية المطاف، يجب أن نسعى جميعًا إلى بناء مجتمع يعتمد على الاحترام المتبادل، والتقدير لكل الأفراد دون النظر إلى خلفياتهم أو تجاربهم، بل على أساس قيمة الإسهام الفعلي في المجتمع.