مجتمع

يوميات رجل تعليم (الحلقة 4): ليلة الغربة الأولى: قلق وذكريات

العربي ازعارة

ليلة الغربة الأولى: قلق وذكريات

لم تكن ليلتي الأولى كما تخيلتها، ولم يكن السكون الذي غمر الغرفة الصغيرة سوى غطاءٍ هش لمشاعر مضطربة. كل شيء كان جديدًا ومختلفًا. كلما وضعت رأسي على الوسادة، تذكرت وجوه من صادفتهم في “مقهى العائلة”، وحديثهم عن صعوبة الطريق، الطبيعة القاسية التي تنتظرني، وعزلة القرية التي أصبحت قدري. أفكارٌ امتزجت بذكريات السفر الطويل، وظلت كفيلة بإبقاء عيني مفتوحتين، أرقب ظلال الليل المتراقصة على الجدران العارية.

ومع ذلك، مرت الليلة الأولى بسلام، وبدوت ممتنًا لهذا الهدوء الذي لم أكن أتوقعه. غير أن الصباح حمل معه حكاية غريبة: سمعت بعض السكان يتحدثون عن أجنبي من فرنسا زارته عقرب خلال الليل وأظهرت له “حسن ضيافتها” بلسعة مفاجئة.

جدير بالذكر أنهم كانوا قد أخبروني أن الطريق إلى القرية مسلك غير معبد، تملؤه الحفر والمنعرجات، وأن الوجهة تبعد عن المدينة بأكثر من ستين كيلومترًا. هناك، لا ماء ولا كهرباء. المكان بالكاد يُشبه “مركزًا”؛ مجرد أكواخ تُفتح صباح يوم السبت لساعات قليلة ثم تعود إلى صمتها. زاد من اضطرابي تحذيرهم بأن المنطقة تعج بالعقارب، مما جعلني أقاوم النوم وكأنني أترقب هجومًا وشيكًا من عقرب تبحث عن فرصة لتهاجمني وتترك بصمتها السامة.

 صباح الاستعداد: تفاصيل الناجين

مع بزوغ أول خيوط الفجر، كنت أرتب أغراضي بعناية، وكأنني جندي يستعد لمعركة. وضعت الشمع في حقيبتي، إلى جانب بطاريات المصباح والراديو الصغير الذي صار رفيقي المحتمل في ليالي الوحدة. المؤن الغذائية البسيطة كانت خيارًا بديهيًا، تكفي الأيام الأولى حتى أتعرف على المكان. أما الطوابع البريدية، فكانت رمزية. كنت أدرك أن رسائلي القليلة ستكون نافذتي للتواصل مع العالم الآخر، ذلك العالم الذي تركته خلفي.

رحلة اللاندروفر: الحكاية تبدأ

في منتصف النهار، بدأت الرحلة صوب جبال “تجاجت”. كانت سيارة “اللاندروفر” تمتلئ بالركاب والبضائع، متاهة من الوجوه التي لم تألفني، لكنها لم تشعرني بالغربة. جلست في الخلف، أتمسك بالمقعد الحديدي، وأراقب كل شيء حولي. الطريق لم يكن مجرد مسار؛ كان تجربة في حد ذاتها، مليئًا بالمنعرجات الوعرة والوديان الجافة. السائق، “دا محمد”، بلحيته الكثيفة ونكاته الأمازيغية، كان بطل هذه اللحظة. كلما لانت حرارة الشمس، زاد السائق من حديثه، وكأنه يملأ صمت الطبيعة بكلماته.

كلما لمحنا بناية في الأفق، كنت ألتفت إلى جاري في السيارة وأهمس:

  • “هل هذه هي المدرسة؟”
  • “لا، ما زال أمامنا الكثير.”

كان السؤال بحد ذاته وسيلة لكسر الملل والبحث عن الأمل في نهاية الرحلة.

الوصول إلى مدرسة الأمل

عندما توقفت السيارة أخيرًا، كنت منهكًا، لكن شيئًا ما في داخلي اشتعل. كانت “مركزية مجموعة مدارس الأمل” تنتظرني، متهالكة كما تخيلتها، بأسقف قصديرية وجدران بلا طلاء. وضعت حقيبتي الثقيلة أرضًا، ونظرت حولي. استقبلني المدير بابتسامة هادئة، رجل تبدو عليه علامات الصبر الطويل. بجواره كان زميلي محمد مستعد الذي سبقني إلى هنا، يجلس كمن ألف هذه الحياة.

بجوار المدرسة، كان المركز القروي كئيبًا، والمستوصف مغلقًا، يروي صمته حكايات عن احتياجات كثيرة بلا إجابة.

وجه في مواجهة الجبال

خرجت لأتأمل الجبال التي تحيط بالمكان، شامخة في سكونها. شعرت أنني أمام أسطورة حية، قطعة من الطبيعة تتحدث بصمتها. كانت الجبال شاهدةً على زمن يتكرر بلا تغيير.

بابتسامة مزيج من المزاح والتأمل، سألت المدير:

  • “كم تبقى للوصول إلى مقديشو؟”

كانت العبارة، رغم بساطتها، انعكاسًا لواقعنا. ضحك المدير، ربما لأنه رأى في كلماتي محاولة لتخفيف عبء الحقيقة، وربما لأنه أدرك أننا، في هذا المكان، نحاول جميعًا إعادة الأمل، لأنفسنا وللآخرين.

ملامح البداية

وأنا أرتب أغراضي داخل الغرفة التي خصصت لي، شعرت بثقل المسؤولية. كنت أدرك أن كل تفصيلة صغيرة هنا، من غياب الكهرباء إلى صوت الرياح في الليل، ستصبح جزءًا من حكاية أطول، حكاية رجل وجد نفسه في مواجهة الطبيعة، في مكان ناءٍ، ليعيد تعريف نفسه ومهنته وأحلامه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى